الغبار أنجلى
ديوان الحزن المعشوق - غازي الحداد البحراني
إشعاعُ الشمسِ تعامدَ على منعرجِ الكثُب=فَاستَحَالَت نَينَوَى غَمِيضاً لاهِبا
مَثارُ النقعِ البَسَ الشَمسَ صُفرَةً=انجَلَت الغَبرَة
الحسينُ يَتَخَطى القَتلى=فَوَجَدَ كُلَ وَاحِدٍ مُلقىً كَمَا تَمَنى
الغُبارُ انجَلى=عَن سَماءِ كَربَلا
إذا الحُسينُ واقِف=وللدُموعِ ذارِف
مُنادِياً وَاوِحدَتَاه=مُنادِياُ وَاغُربَتاه
نُصرَةُ آلِ المُصطَفَى مَبادِئُ القُرآن=حَقٌ وعَدلٌ مُطلِقٌ حُرِيَةَ الإنسان
قَد زَيَنَت سيوُفهُم مفارِقُ الفُرسان=فصَّيرَتها شَفَقاً مُختلِطُ الألوان
ثم ارتدَت رِماحهُم مِن حِليةِ الرُهبان=مِن أسوَدٍ مُفَصَلٌ مِن أَكبُدِ الشُجعان
ومِن نُحوُرِ خَصمِهِم تَدَفَقَت غُدران=بأَسيُفٍ في حَدِها عَزائِمِ الإيمان
قَد أرسَلَت لُحومَهم لِخافِقِ الغُربان=فَنالَها مِن قَبلِ أن يَحُلَ بالتُربان
لكِنَما نُدرَتها وكِثرةُ الذؤبان=قَد أَتعَبَتها والظَما جيشٌ مِن الخُذلان
فَصُرعَت وخَلَفَت سِبط الهُدَى حيّران=ظمآنَ يُبصِرُ المَدى مِن الظما دُخَان
وهوَ سٌلطانُ الوَرى ولهُ فَرضُ الوَلاء=بالمَوقِفِ المُشَرِف ,, حِسُ الضَميرِ يعرِف
نِدَاءَهُ واوِحدَتاه=نِدَاءَهُ واغُربَتاه
ما بينَ الفِ جُثَةٍ لناصِبٍ حَقير=مَشى الحُسينُ باحِثاً عَن عُصبَةِ الغَدير
وعِندَ تَلَةِ الإبَا بِحَرَةِ الهَجير=رَأى إماماً ساجداً اذا بهِ زُهَيّر
بِقُربِه جَنازَةٌ مَنظَرُها مُثير=رائِحَةُ القُرآنُ مِنها تَملَأُ الأَثير
ورَأسُهُ مُجَرَّحٌ وضِلعُه كَسير=هذا مُرَتِلُ الكِتابِ شَّيخُنا بُرَيّر
ومُسلِمُ بنِ عَوسَجٍ يُطرِبُهُ الصَرير=لذَاك خَرَ ضَاحِكاً وَوَجهُهُ مُنير
وابنُ هِلالٍ جُرحُهُ بِوَجهِهِ غَزِير=اذ لَم يكُن عِندَ اللِقا بِوَجهِهِ يُدير
والحُرُ كانَ هائِجاً بالأَبلَقِ المُغير=لذاكَ صارَ َرأسُهُ نِصفَين بِالوَتير
شَدَ لَهُ عِصَابَةً سِبطُ الهُدَى البَشير=فأًصبَحَت تاجاً لَهُ وأَصبَحَ الأَمير
حَتى غُلامَ التُركِ ذَاك الفَارِسِ الصَغير=حَط الحُسَينُ خَدَهُ بِخَدِهِ العَفير
أو وَهَبٍ مِن قُومِ عيسى مُعرِسٍ النَظير=جاءَ يُدَاوِي قَلبَهُ بِقَلبِهِ الكَبير
وَكُلِما مَشى قليلاً يَلتَقِي نَصير=مُحتَضِناً صارِمَهُ للعِزَةِ يُشير
هُنا هُناك هاهُنا مَُقدَسٌ جَزير=ما كانَ يُرضيهِ بِلا تَقطيعِهِ المَصير
فَكُلُ ما كانَ غَلا أَبلوهُ في أَرضِ البَلا=فِداءٍ للحُسين نَسلِ الهُدَى الأَمين
مُنادِياً وَاوِحدَتاه=مُنادِياً واغُربَتاه
توَجُعٌ سَرَبَهُ الهَواءُ بِالأَلَم=وفَحصَةٌ ضَعيفَةٌ في التُربِ بِالقَدَم
كأنَهَا فَحصَةُ شَيخٍ هَدَهُ الهَرَم=تَمنَعُهُ أَن يَستَغيثَ عِزَةُ الكَرَم
كَأَنَهُ ضارَبَ حتى سَيفُهُ انثَلَم=واضَعَفَ الظَما والشِيبُ قُوَةَ الهِمَم
أَقسَمَ إلا للمَنونِ بِالوَغى نَعَم=ولا وُرودَ غيرَها كَدراءَ بالرَغَم
يَبدو سَعيداً ثَغرُهُ بِجُرحِهِ ابتَسَم=كأنَما يُهدي الصَليلُ سَمعُهُ نَغَم
يَبدو عنيداً كُلُ عضوٍ عِندَهُ انفَصَم=يَبدو وَفياً راكِزاً بِقَلبِهِ العَلَم
يَبدو عَزيزاً لَم تَمُت بِنَفسِهِ الشِيَم=يُوصي بآلِ المُصطَفى بآخرِ الَنسَم
يَعرِفُ هذا يومَهُ وضَربَةُ الأصَم=عَلَمَهُ الخُضرُ أَبو الحُسين بالقِدَم
هَبَ الحُسينُ يَقتَفي مَعالِمَ الشِمَم=إذا حَبيبٌ يَلتَوي بِلاهِبٍ ودَم
نادى حَبيبي فَانتَشى حَبيبُ وابتَسَم=كَأنَما يَسبَحُ فِي الجَناتِ بالنِعَم
صوتُ الحُسين رَدَهُ حَياً مِنَ العَدَم=وَضَاحَ مِن إشراقه سُمي أبو القُسَم
والحُزنُ هَزَ كَربَلا=حَتى خِيامِ الفُضَلا
وابنُ النَبيِ وَدَع=حَبيبَ وهوَ يَدمَع
مُنادِياً واوِحدَتاه=مُنادِياً واغُربَتاه
خَلفَ التُخومِ مَلَكٌ مُضطَرِبُ الأَنوار=كَأَنَهُ يَلثِمُ شَيئاً يَشبَهُ الأَسفار
كَسِفرِ أَيوبٍ مُشع ٍ أَو هُدَى المُختار=كَنجمَةٍ فوقَ الثَرى أو قَمَرٍ مُنهار
تَتَضِحُ الرُؤيا قَليلاً في مَدى النُظار=السِبطُ فوقَ جُثَةٍ قَطَعَها البَتار
يَبدو وَحولَهُ العِدى بِجَحفَلٍ دَوار=قِطَعَةَ نورٍ أَشرَقَت في ظُلمَةِ الأَسحار
أخي عَليكَ حَسرَتي بِخاطِري كَالنار=يَداكَ والرَأسُ عَلَيَ تُشمِتُ الفُجار
أخي قَطَعتَ حِيلَتي فَحارَت الأَفكار=أخي قَصَمتَ فَقرَتي يا مُهجَةَ الكَرار
أخي فمَن لرايَتي بِقَسطَلٍ ثَوَار=أخي ومَن لِعَيلَتي مِن هَجمَةِ الأَشرار
آهٍ فَجَاوَبَ الصَدى آهٌ مِنَ الأَستار=واكافِلاهُ آهُ وايُتماهُ وا مِغوار
أعقَبَها هَروَلَةٌ لِرُكَضٍ عُثَار=عَلى الوُجُوهِ بالفَلا تَتطَلِبُ الأَخبار
قَامَ لَها يَرُدُهَا خُزانَةُ الأَسرار=والدَمعُ جَفَ بالظَما فانسَكَبَت أَنوار
رُدَوا وعُدوا لِلسِبا فِي غُربَةِ الأَسفار=ماتَ الكَفِيلُ والحِمَى وانهَدَتِ الأَسوار
ماتَ الكَفيلُ والحِمَى=عَلى الفُرَاتِ بالظَما
وابنُ النَبِيِ حائِر=يَرُدُ بالحَرائر
مُنادِياً واوِحدَتاه=مُنادِياً واغُربَتاه
الشَمعُ جَامِدٌ عَلَى أَعمِدَةِ الخَيمات=والدَمُ جَامِدٌ عَلَى جَسّامِ بِالوَجنات
كَأنَ صوتَ أنةٍ تَتبَعُهَا أَنَات=مِن خَيمَةٍ دُونَ الخِيامِ فَوقَها زينات
كَأنَ صوتَ حَرَةٍ نُورِيَةِ الهَيبات=كأَنَها زَعِيمَةٌ أَنفاسُها آيات
تَقُولُ لا يَا سُكنَةُ لا تَضرِبي الرَاحَات=جَسَامُ رَاحَ دَاعِياً لِفَارِسِ المَسنات
رايَتَنَا بِكَفِهِ تُنَكِسُ الرَايَات=لا يَستَوِي كَفِيلُنا لا يَحضُرُ الفَرحَات
صَغيرَتي نَامِي بِقَلبِي هَدِئِي الرُوعَات=فَإنَهُ مَعَ الكَفِيلِ بالخِضَابِ آت
ما أَكمَلَت إلا و ضَجَت بالخَبَا العَمَات=هذا الحُسينُ حَامِلاً مُعَرِسَ الحَسرَات
مُنَادِياً يا زَينَبٌ يارَبةَ الثَكلات=قُومِي أَتَى عَرِيسُكُم بِأَفجَعِ الزَفَات
أَتَى عَرِيسُ كَربَلا=مُقَطَعاً مُفَصَلا
إلى القُلوبِ نَازِع=وللحُسينِ فاجِع
مُنادِياً واوِحدَتاه=مُنادِياً واغُربَتاه
مَشَى بِوَهجَةِ الفَلا يُؤَذِنُ القَتلَى=والنورُ مِن أَجسادِها يَكثُرُ بِالأَحلَى
فَتىً كَأَنَ وَجهُهُ صَيَرَهُ المُولى=لِكي يَقولَ لِلوَرى إنِي أَنا الأَعلَى
يَرسِمُ مِن صُورَتِهِ للمُصطَفَى مِثلَ=عَزَ عَلى ناظِرِهِ أَن يُوجِدَ الفَصلَ
وإن نَزا بِسيفِهِ مُشتَهِياً صَولا=أوصَت كَتائِبُ العِدى بِمالِها الأَهلَ
حَارَت بِهِ مُرتَجِزاً فَاختَلَفَت قَولا=جَمعٌ يَراهُ المُرتَضى جَمعٌ يَرى الشِبلَ
وكُلَما شَكَت بِهِ شَكَ بِها النَصلَ=حَتى إذا حَزَ بِها أيقَنَت القتلَ
فَهَل عَلِمتُم لأَبٍ كَالأَكبَرِ نجلا=وهَل عَرِفتُم قَبلَهُ إلى السَمَا نَسلا
كَلا وما أَكَثرُ قَولَ الحَقِ في كَلا=لا كالحُسينِ صَابِراً أو حَاصِداً فَضلا
إذ ليسَ مِثلُ ثَكلِهِ بَينَ الوَرَى ثَكلا=فَقِيدَهُ كَانَ لِحُسنِ شَمسِنا عَصلا
كُلُ الرَزايَا والبَلايَا حَرُهَا يُسلى=إلا رَزَايا كَربَلا تَسمُو عَلى المَسلى
إلا رَزَايا كَربَلا=فَاجِعَةً إلى المَلا
ما لِلوَرى رَزِية=كَيومِ الغَاضِرِية
لا كَالنِدا واوِحدَتاه=لا كَالِندا واغُربتَاه
هُناكَ شَيءٌ مُبهَمٌ عَلى يَدِ الحُسَين=يَلمَعُ فِي شَمسِ الفَلا كَقِطعَةِ اللُجَين
يَضُمُهُ بِقَلبِهِ كَأَنَهُ اليَقين=يَشُمُهُ كَأنَهُ عَبيرُ الخَالِدين
أَجلاهُ وِسطَ لَفَةٍ أَمامَ الناصِبين=إذا بِهِ طِفلٌ رَضيعٌ ذَابِلَ الوَتِين
مِنَ الظَما جَامِدٌ جَمادَ المَيِتين=مِثلٌ هِلالٍ ناشِئٍ مِن قَبلِ ليلَتين
غافٍ يُريكَ وَجهُهُ مُحَمَدَ الأَمين=أو ما تَشاءُ فَاتَخِذ جَمالَ المُرسَلين
بُلوا لَظَى فُؤادِهُ وَلو بِقَطرَتين=مُنذُ ثَلاثٍ لَم َيذُق مِن بارِدِ المَعين
ساجٍ بِحِجرِ أُمِهِ سُجوَ اليائِسين=مِنَ السِقَاءِ واللِوَاء والعَمِ واليَدَين
إن خِفتُمُ أَن اَرتَوي خُذُوهُ وَاثِقين=إني وَصَحبِي نَلتَقِي بِالله ظَامِئين
فَافتَرَقَت جُموعَهُم بِالرَأي فِرقَتَين=إحداهُما قَد صَدَمَت رَحمَةَ آخَرِين
مَذهَبُها الحِقدُ عَلى الهُداةِ الطَيِبين=فَليَخضَعوا أو الظَما لِلمَوتِ صَاغِرين
فَاستَلَ اِبنُ كَاهِلٍ حَرمَلَةُ اللَعِين=سَهماً رَمَى نَحرَ الرَضِيعِ بَينَ العَسكَرَين
مَا إن أَحَسَ حَرَهُ اِنتَفَضَ الجَنِين=فَلَ القِمَاطَ وَارتَمَى فِي عُنُقِ الحُسَين
رَمَى الحُسَينُ لِلسَما بِكَفِهِ الحَزِين=دِمَاءَهُ مُشتَكِياً لِرَبِ العَالَمِين
يَا مَليكَ أَمرِنَا=خُذ للرِضَا مِن دَمِنا
وَارأَف بِحالِ عَبدٍ=ظَامٍ جَريحٍ فَردٍ
مُنَادِياً وَاوِحدَتَاه=وَدَاعِياً وَاغُربَتَاه
الأَرضُ فِيهَا هَزَةٌ والرِيحُ عَاصِفَة=وَفِي السَمَاءِ نَجمَةٌ حَمراءُ صَادِفَة
كَأَنَها مِمَا تَرَى فِي الأَرضِ آسِفَة=كَأَنَهَا مِن حُمرَةِ الأَنوارِ ذَارِفَة
تَرقَبُ حَالَ امرَأَةٍ بِالتَلِ وَاقِفَة=تَندُبُ شَمساً بِالثَرى بِالدَمِ نَازِفَة
إن كُنتَ حَياً يَا أَخَي فَالخَيلُ زَاحِفَة=عَلَى خِيَامٍ مَا بِهَا سِترٌ لِكَاشِفَة
تَقُولُ نَجمَةُ السَمَا لِلسِبطِ وَاصِفَة=قَامَ ثَلاثاً فَهَوَى وَالرُوحُ شَارِفَة
فِي قَلبِهِ ذُو شُعَبٍ شَطرَينِ نَصَّفَه=مِنَ الحَصَاةِ غِرَةُ السُجُودِ تَالِفَة
فِي حَلقِهِ سَهمٌ عَلَى الوَرِيدِ كَلَّفَه=فِي وَجهِهِ مِن دُمَلِ الجِرَاحِ ناتفة
خَاصِرَةٌ مَطعُونَةٌ وَالضَربُ أَضعَفَه=وَكُلَمَا صَاحَ الظَمَا الطَعنُ أَسعَفَه
وَزَينَبٌ بِالرَبوَةِ عَلَيهِ هَاتِفَة=وَهوَ يُنَادِيهَا اِرجِعِي لِنَجدِ الخَائِفَة
رَدَت إذا النِيرانُ بِالخَيماتِ قَاصِفَة=وَالُنسوَةُ مِنَ الظَمَا وَالخَوفِ نَاشِفَة
تَعدُو وَلكِن عَدوَةَ الصَبُورِ هَادِفَة=إلى عَليلٍ أَلَمُ البَلاءِ أَنحَفَه
مَا صُنعُنَا أَنتَ هُنا زَعيمُ الطَائِفَة=فَقَالَ فُروا عَمَتِي فَأَنتِ العَارِفَة
ولِلحُسينِ أَنَةٌ الظَمآنِ عَازِفَة=وَالشِمرُ فَوقَ صَدرِهِ قَد حَطَ مَوقِفَه
مُمَكِناً مِنَ القَفَا بِالنَحرِ مُرهَفَة=بَرَى الكَريمَ ثُمَ فَوقَ الرُمحِ طَرّفَه
الله اكبر=الله اكبر
فَارتَجَ وَادِي كَربَلا=حَتى السَماواتِ العُلا
فابنُ النَبِيِ يُذبَح=وبِالهَجِيرِ يُطرَح
مُنادِياً وَاوِحدَتاه=مُنادِياً واغُربَتاه