هجرتُ التصابيَ والخُرَدَا = وكأسًا إذا ما امتلى أزبدا
ومشى الهوينا تثنى علينا = بِقدٍ كما نشتهي قُدَّدا
وحُمرُ الليالي ونظمُ التسالي = فريدًا من الدُّر قد نُضددا
وغَنجٌ ودَلٌ وبالطرفِ نجلٌ = يُلاحِق عينيَ مُستَقصِدا
وخِلٌ أنيسٌ وخَصرٌ لميسٌ = تأزر لكنه ما ارتدى
يطوفُ وألبابُنا حولهُ = إذا لاح مٌستطَرَفًا أغيدا
تنازعَ أحداقَنا جيدُهُ = بعِقدٍ تلألأ فوقَ الثداء
تُرينا الليالي في خُصلِها = وصُبحُ المُحيا يُرينا الغدَا
بطرفٍ تحورَ من فِطرةً = طبيعتهُ هكذا أثمدا
وثغرٍ تبسمَ فيه الإقاح = يكادُ من الريقِ أن يوردَا
نصوعًا سطوعًا فلو أطفأوا = سِراجًا بجانبهِ اتقدَا
تعِضُّ عليه لُمًا أحمراً = يُقارب في لونهِ الأسودَا
إذا ضحكت أخذتنا الظنون = إلى الحورِ لا طيفَ بل مشهدا
سِوى أنها تستبيحُ الوِصال = وتِلكَ تُحِبُ بأن تُفردَا
فما الصبُّ في سكراتِ الهوى = يُفيقُ إذا باللظى هُدِدَا
ولو بُعِثت عِندها الأنبياء = لتَزجُرَ عاشقها ما اهتدى
وكان النديمُ إماماً لنا = ودكةُ صحبائهِ مسجدا
وكان الزمانُ يُنيلُ الأمان = وكنا نمُد إليه يدا
إلى أن سمِعنا بناعي الحسين = يُرجعُ ما يفطِرُ الأكبدَا
يُردِدُ يا كربلا كالسِهام = يصيبُ براعِشها الأفؤدَا
وينشِدُ شِعرًا فجيعَ الرِثاء = يَفُتُّ الحشى كُلما أنشدَا
فقمنا إليهِ بدمعٍ سخين = كأن البلاء له أوقدَا
وقلنا أيا خامراً بالهوى = أراكَ جزِعتَ فماذا بدى؟
وكان يمر على شاطئٍ = تحيطُ الصخورُ به جسدا
كأنهُ جاءَ الى العلقمي = مُصرًا بأن يَملأ المِزودا
وفيهِ بقايا من العنفوان = تدلُ على أنه اجتَهدا
ولا ندري قبل اقتحام الورود = أُبيد أم أنه قد وردا
وكان مَهيبًا بِرغمِ الجِراح = يُظنُ أبوه فتًا سيدا
وما حجب الدم عنه الجمال = بدى قمراً قطعتهُ المُدا
يقول بأنه أبكى النخيل = بقربته ظامئًا موسدا
وكاد الفُراتُ يقوم إليه = ليَمسح هامته مُكمدا
تحسر كيف رمى مائهُ = وفارقه لم يبُل الصدا
بغير كفوف فكفٌ هنا = وكف هُناك نئى مُبعَدا
ويبدو بأنه كان يدور = بسهمٍ عماهُ فجال السُدا
ومُخه كان يسيلُ دمًا = كأنه من عمدٍ عُمدا
ولم يبقى سيفٌ نقيعُ الذحول = تجردَ إلا به أُغمدا
وسر انتشار السهامِ عليه = إذا صوبتهُ يمُد اليدَ
ويبدو بأنه لما هوى = على وجهه استقبل الجلمدَا
ألا تنظرون خيامًا هُناك = وأوتادها بقيت ما عدى
فهذا المسجى عمادٌ لها = وكان الأظلة والأعمدة
ولما أُصيب بحد العمود = تجرئ من شاء أن يوقدا
وفيها عطاشى قد انتدبوه = فجاء الفراتَ لهُم مُنجِدا
وواعدهم بالروى أو يموت = فماتَ على الوعدِ مُستَشهدا
فكانت ولادته من هنا = حريماً من الكف قد ولِدَا
وسورة والعصر إسمُ أخيه = أتم التواصيَ من أحمدَا
ولكنه مذ رآه صريع = أقامت عليه القنا محشدا
هوى رُكنهُ وانحنى ظهرهُ = وناداهُ يا شملُ قد بُددا
وصيحتهُ من حشى أُختهِ = فمنه النداءُ ومنها الصدى
أوا كافلاهُ أوا ضيعتاه = أخي بعد جودكَ من للندى
وطافت بنا راحلات القريض = تجذ بأسطُرها وُخَذا
على جسدٍ لا يليقُ الثرى = بمثواهُ ما لم يكن عسجدا
من الكفر محضًا إذا ما تراه = وتأبى لحُسنِه أن تسجُدا
أهذا نبيٌ؟ أهذا وصي؟ = أم أنهما فيه قد وُحِدا؟
أيوسُفُ هذا من البئر جاء = إلى كربلاءَ لِكي يشهدَا؟
ولكنَ هذا يفوقُ لذاك = ويسمو بطلعته مُصعِدا
فليس له غيرهُ من شبيه = بنفيِ الشبيه قد اتحدَا
توحد في صومعات الجلال = فريدَ الجمالِ لكي يُعبدَا
فدع للعيانِ سَراحَ الخيال = فما الحق إلا بأن تشهدَا
وكان بنا عجبٌ حائرٌ = يريد اليقين لكي يفندَا
أما كان أولى بهذا الفتى = لعرشِ السماءِ بأن يصعدَا؟
فماله ملتفعاً بالتراب = ومعتنقاً بالثرى الصيهدَا
أليس لهذا الغلامُ أبٌ؟ = أما مات من فقده كمدا؟
فقالوا بلى إليه أبٌ = يدورُ بعينيهِ نزعُ الرَدى
ولما رآهُ شتيتَ الوِصال = توزعَ من طعنهِ أفرُدا
وما فيه عضوٌ بغير انفصام = كوثقَ العَرى انفصمت بالهدى
كأن العدا صادفتهُ جريح = وكانت على جدهِ الأحقدَا
فطاعنه شدَّ غِلَ السِنان = وطائشها بالحشى سددَا
وخَرَّ كنَجمٍ على الفجرِ لاح = يُصدِعُ في بُرجِه الفرقدَا
تعفرَ فوق الجراح أبوهُ = جزوعًا تعذرَ أن يجلُدَا
ولمهُ في بردةٍ وطواه = فما حالُ قلبٍ طوى ولدا
بُنيَ علي وعيشي بلاكَ = علي استوى جدثًا موصدَا
فلا تحسَبنيَ في الغابرين = عفى العمرُ من بعدكَ وغدا
يتمتمُ يا أبتي للخيام = أعدني بصدرِكَ مُلتحِدا
فقتلي أهونُ من أراكَ = تجولُ بطرفِكَ مُنفردا
لأُمك إن عُدتُ ماذا أقول؟ = أألقيكَ في حِجرها مُخمدا؟
وزينبُ يا ولدي قد تموت = وأنتَ كذا قِطعًا جَسدا
فلما أتى به نحو الخيام = هوى قَلمُ الشِعر مُرتِعدا
فعدتٌ إليه فقال اعفِني = وأرعشَ أُنمُلتي واليدَا
وقال أخافُ هنا أن أقول = مقالاً جريئًا ولن يُحمدَا
أقولُ بأن صغيرَ الشبال = بوسطِ النساءِ رمى الأسدَ؟
أقول بأن الحسين الوقور = إلى الخِدر مَحتضِرًا وفدَا؟
وكان التجلُدُ من طبعِه = بعُظمِ الرزايا فما جلُدَا
رمى نفسه قبل رمي النساء = على إبنه والهًا مُكمدا
وليلى تمُر براحاتها = على جُرحِ رأسهِ كي يُبردا
وسُكنى تقولُ هنا يا أبي = أرى عاتقًا خلِعًا مِفصدا
وصيحةُ زينبَ وا ولداه = وماسُمِعت بعد هذا النداء
تجافى وقُم يا خليلَ الشجى = فلا يسَعُ القلبُ أن يكمُدا
فزادَ وقال لهُم مُعرِسٌ = أقاموا له بالهنا محشدا
وكان زفافًا قصيرَ المدى = ولكنهُ قد بقى سرمدا
وفيه النساءُ تَجِرُ الصغار = وكان السوادُ الذي يُرتدى
وخدُ العريسِ به دمعةٌ = فصارَ كوردٍ سقاه الندى
عليه ثيابٌ من المجتبى = قميصٌ ومنطقةٌ ورداء
ولفَّ العِمامةَ من أخضرٍ = تدلَت بأفخرَ ما يُعقدَا
وسيف تقلده مرهفاً = تهيب حمائله مَغمدا
و أُلبس من حلقاتِ الدروع = سَبوغًا على صدره أزردا
ومسكٌ ندود و وردٌ و عود = إذا فاحَ من طيبهِ زُوِدَا
ورملة وزينب من حوله = تصلي على المصطفى أحمدا
وتتلو الصلاة مع المٌعوذات = من الحٌسن تخشى بأن يٌحسدَا
فلما تجلى أمام الحُسين = تجلى به الحسن المفتدى
يقول دعوني إلى عوذتي = أوفي فعمي انتخى مفردا
ولما مشى مِشية الراحلين = وأسلمَ للأجل المقودَا
أسَّرَ فؤادُ القرى خَطوهُ = وأضحكَ من لطفه الفدفدَا
وفي سِرجِه خلت بدرَ التمام = تَخيَلَ رُغم الضحى الفرقدَا
ويرجزَ من رائعاتِ البيان = أنا ابن عليٍ سِمامِ العدا
أنا ابن الوصيِ وسبطِ النبي = وروحي لروح الحسينِ فدا
فأن تُنكروني فسيفي يقيني = ورُمحي أشُكُ به المُجحدَ
أنا ابن الصدورِ ولاة الأمور = بنا ختمة الأمر و المبتدا
وأوغل حيثُ لفيفُ الذِئاب = ليزئر في الحرب مُستأسِدا
وغنى الحمامُ هديلَ الغرام = وطيرُ المنية قد غردَا
فهاجت به عزةُ الخُيلاء = من المرتضى فاستخفَ العِدا
ومالَ إلى نعلهِ مُصلحًا = جريئًا يرى المتلقى معهدا
فكان غنيمة ابن النُفيل = فأهوى على رأسِه الأجردَا
وأبدلَ منهُ ثيابَ الزُفاف = بأخرى لها الدم قد جددَا
فَخَّرَ به مجدُ أبائِه = مؤثلُه يندُبُ المُتلدَا
فهبَ الحسينُ وذا دأبُهُ = يغيث أخًا له أو ولدا
بقلبٍ فطيرٍ وظهرٍ كسير = فقامتُه تشتكي العَمدَا
ونادى بُنيَ يعِزُ علي = بأن تستغيثَ ولا أُنجدَا
بني أما زلتَ تشكو الظمأ؟ = أما ذُقتَ من جُرحِكَ الموردَا؟
وحاكى بحمله قوسَ النبال = ثقيلًا على صُغرِه مُجهِدا
يُحدق في حُسنِه فيرى به = الحسن السبطُ قد جُسدَا
لذلك مالَ قوامُ الحسين = وما قامَ مُعتدلًا أبدا
رؤوه حديبًا على ذي الجناح = إلى أن تعَفَرَ واستشهدَا
كفاكَ كفاك بلغتَ مُناك = فقد فات ما فات وانمردَا
فقال ذروني فعندي رضيع = سأنعاه وجزًا ولن أسرُدَا
بعينَيه كُل اختصار الجمال = إذا شبِحَت رامقاتُ المدى
به انفلقَ الصبح بعد الغسوق = كأن الدجى منه قد بُددَا
فلا حظَّ فيه لعَينِ الحسود = ولا نَفَثَ الصدرُ وانعقدَا
وعينًا رأى القومُ فيه النبي = صغيرًا بلفته ملبدا
فقامَ عليهم شهودُ العيان = وحَسبُ الجحودِ بأن يَجحدَا
بأن الصغير بليغُ البيان = إذا ما تصوبَ واستشهدا
وأجلى بُروزًا لغلِ الحقود = إذا ما تعودَ أن يحقِدَا
تراه وقيدَ الحشى بالظمأ = ووجنتُه بالسنى موقدا
سمومُ المكانِ ووهجُ اللسانِ = سمومانِ في قلبه اتحدا
كأن السماء رمته على = ذِراعِ أبيه وما وُلدَا
طلوعُ هلالٍ على ساعدِيه = إذا زاح عنهُ أبوه الردا
وخاطبهم إن أكُن عاديًا = فهل ذا بظُلمٍ عليكم عَدى؟
ألا تُطفئوا منه حَرَ الغليل = لعينِ النبي سراطِ الهُدى
أليس بكُم راجحُ يستقيل = ترديكمُ هوة المرتدى ؟
ألستم بني قيلةٍ في الأصول؟ = أما بلِغَت واعضًا مُرشدا؟
فأن كُنتُ في حقٍكم مُذنبًا = فهل من صغيريَ ذنبٌ بدا ؟
تغشوا ثيابهُم مِثلما = تَغشَت لنوحِ النبي العدا
فكان الجواب فضيعًا أليم = يفُتُ الصفى جلمدًا جلمدا
تصدى له حرملٌ راميًا = بِسهمٍ وفي نحره سددَا
فصارَ يرٌفُ بصدرِ أبيه = كطيرٍ ذبيحٍ بحدِ المُذى
وأغرقَ كفيهِ من دمهِ = وبادرَ في رميها مُصعدا
فكانت لعينِ الثرى دمعةً = وكانت لعينِ السماء مرصدا
تسامت إلى شُرفةِ المستجار = فمد لها جبرئيلُ اليدَا
فلا الوعدُ وفى إليه السِقى = ولا السهم أخطئه موعِدا
فلما تَقَصَدَ صوبَ الخيام = تناهى البلاءُ بما قَصَدَا
وكان يسودُ على أمره = فصار المصابُ لها سيدا
يُقلِبُهُ في يديهِ ذبيح = عساه يرى رمقًا مُسعِدا
وثُرنَ النساءُ كسِربِ القطى = إذا ما تسابَقَ أو طوردَا
سراعًا إليه بِقَدرِ الأسى = تُقفي و جائِدُها الأوجدَا
وأقصدها في البلوغ الرباب = وتعرِفُ لم كانت الأقصدَا
وصارت تشُدُ إلى حِجرها = ضناها وتبعثُهُ مُخمدا
وأعظمُ ما فجَعَ الثاكلات = دمُ النحر بالسهمِ قد جَمَدَا
حنانيك قلنا كفى، لا تزِد = وإياكَ إياكَ أن تَزِدَا
فقال الذي قد تجلى يسير = قِبالَ الكثيرِ الذي ما بدى
بقى السِبطُ مُنفردًا بالخيام = كما كان ذي الفضلِ مُنفردا
وكان الزمان إليه يدٌ = ومِن راحتيهِ الوجودُ جدا
وبابُ التوسُلِ من حادَهُ = فقد جاءَ باب السماء موصدا
ففيه الرسولُ وفيه البتولُ = وحيدرُ والمجتبى عُدِدَا
وفيه الخليلُ وموسى الكليم = ومن زاد عيسى فقد سُددَا
ويأبى بغيرِ ولايِته = إلهُ الخلائِق أن يُعبدَا
فمن وحَّدَ اللهَ من دونها = أتى للجزاءِ كمن ألحدَا
ألا من نصيرٍ؟ ألا من معين؟ = على الظامئمين يعيد الندا
أخي فَضخُ هامِكَ ضيعني = وجذُ يمينك جذَ اليدَا
وسهمٌ بعينِكَ خلفني = أُجدي دروب المدى عرمدا
وكُلُ جروحِكَ جرحٌ لدي = فقد كُنتَ لي النفسَ و الحُمدا
عليٌ بُني ألا قُم إلي = ألستَ الفتى الباسِلَ الأصيدَا
وحُلمُ الدلال وحلو الخصال = وفيكَ أرى الجدَ والولدَا
وسِبرةُ أُنسي وقرة نفسي = فصرت بها الزاهِدَ الأزهدَا
وجدتك روحي التي تُحيي = فما يجدني بعد أن أجدّا؟
أيبقى بهذه الحياة أبوك = وفقدكُ قد نزَعَ الكبدَا
عريسُ المنايا جميلُ المزايا = وطيرُ الجِنانِ إذا غردَا
وغُصنُ الأراكِ ومشي الملاكِ = عليه الحُسامُ إذا قُلِدَا
فجيعُ الخِضابِ بحَرِ التُرابِ = تجلَلَ من رأسِهِ السؤددَا
حبيبي حبيب زهيرٌ بريرٌ = يصيحُ فيِرجِعُ منه الصدى
تنامونَ مِلأ الجِفونِ ردًا = وأبقى أُناشِدُكم مُسهدا
فمارت على الأرضِ تنوي القيام = وكُلٌ من النخوة اضطردا
فشارَ لها التزمي بالممات = قضى الله في مصرعي مُفردا
وإن لحوقي بِكِ في الجنان = قريبُ المنالِ ولن يَبْعُدا
ونادى ألا من يَشِدُ الجواد = فلا أرى من فتيتي أحدا
فقامت على قلبِها زينبٌ = وصاحَت أيا قلب كُن جَلمَدا
وجاءتهُ تسحبُ أذيالها = تقود إليه جوادَ الردى
تلوم قساوتها بالحمى = تجودُ به لِسيوفِ العدا
وراح طليقًا على ذي الجناح = أبِياً وحُرًا كما عُوِّدا
فلَم يرى في حصدِه للرِقاب = شُجاعٌ تعَهدَ أن يَحصِدا
والله أكبر باسم الإله = إذا كبَّرت هُبلًا رددَا
ولما تَشابَكَ مُحتَرِبًا = وصَكَت عليهِ العِدا الأنجُدَا
وجالدها ساعِدًا ساعِدًا = ولاحمَها عَضُداً عَضُدا
أحسَت ببأسِهِ فانتبذت = مكانًا قصى بسُرابِ المدى
تُرجِعُ منهُ ثُغاءُ القطيع = ويزأر في رعيها أسدا
وأوغل في أجمٍ من سيوف = تَظلَلَ فيه القنا المقصدَا
يَشِفُ من الطعنِ سِتر الدِلاص = ويمزٌقُ من ضربِه الخوذَا
ووترًا إذا طوقَته الكُماة = تَفِرُّ وقد صدَّها واحدا
كأن السماءَ على أرضِها = ونَجمُ المنايا هوى أسودا
ووجهُ النهارِ بلا مَطلعٍ = وليلُ الزمانِ بِلا مُغتَدى
ولا زال يشفي غليلَ الحقود = برُمحٍ يُصيبُ به المَحقَدَا
لديهِ جناحٌ على ذي الجناح = إذا شاء للخُلد أن يصعدَا
وأملاكُ بدرٍ تطوف عليه = تمنتهُ لو يطلِبُ المددَا
وشيخٌ من الجنِّ صاح بهِ = ألا أؤمر حسينٌ نبيد العدا
فأعرضَ عن ذا وذاك إباً = ليلقى المنيةَ مُستَفرَدا
ينادي إذا كان دين الإله = يقوم بقتلي فيا مَسعَدَا
فأطلقَ كفُ القضاء كفهُ = وأرخصَ كفًا عليهِ إعتدى
رماهُ بِفهرٍ دعيُ الحُتوف = بِغُرِته ودمى المسجدَا
فحاولاها رافعاً ثوبهُ = ليمسح عنه الدم الموردَا
فجاء المثلثُ في قلبه = وبالدم من ظهره نفذَا
فجاد يُسبِحُ وهو يطوف = طواف الوداعِ بسهم الردى
يُخضِبُ شيبتهُ بالدماء = ليلقى الإلهَ خضيبًا غدا
فما اغتمنت منه إلا السيوف = فصارَ لمَهوى الضبا معبدا
وأضحى على سَرجِه غرضًا = لمن يتشفى ومن سددَا
وكُثرُ الجراحِ وسَعرُ الظمأ = ونزفُ الدِماء لهُ أجهدَا
فمال إلى ربوة في البطاح = وخر على حرها موسدا
وظَّلَ الجوادُ يحومُ عليه = ويُدلي على كَفِهِ المِقودَا
فجاء سِنانٌ له بالسِنان = وفي خِصرِه رُمحُهُ أغمدَا
فَهَجَ الحَصانُ لأهلِ الخيام = جَموحًا يُقادِحُ ما أزندَا
فيا عُظمَ ما قد طوى صَهلُهُ = ويا ثِقلَ ما به قد أبردَا
وعند العقيلةِ ذاكَ الشموس = ثنى رُكبتيه وألوى اليدَا
وألقى برأسِهِ في حِجرها = وحمحمَ مفتجِعًا مُزبدَا
فصاحت به كيف خلفتهُ = يجود بنفسهِ بين عدى
ألم تدري أنهُ روحُ البتول ؟ = وللخلدِ تدري به السيدَا
فقامَت ويا لقيامٍ لها = أقام الزمانَ وما أقعدَا
وهامت بنِسوَتِها راكضات = لتُصبِحَ دون حماها فِدا
بغيرِ شعورٍ نشرنَ الشعور = وما لها إلا النحيبُ حدا
فما جِئنَ إلا وشمرُ الخنى = بصدرهِ مُنتعلًا صعدَا
بموضِعِ تقبيلِ طه الرسول = وسر القضى آخذًا مقعدَا
فلما رآه الحسين دعاه = أمط عن لثامِكَ كي أشهدَا
إذا له وجهٌ كوجهِ الكلاب = بدى أبقعًا أبرصًا أجعدَا
وشؤم الخنازير في خلقِه = تربَعَ مُستَقبَحًا نَكِدا
فصلى الحسينُ على جَدهِ = ونداه ما قُلتَهُ قد بدى
فشاطَ الدعيُ على المُصطفى = وقام برفسِ إمامِ الهُدى
فصار العُلى وجههُ للثرى = يُلفِظُ من فمهِ المِربدَا
يصيحُ وجدي أنا ظامئٌ = ونفسي قد اشتعلت موقدا
وراح يُهبِرُ أوداجه = وعن جسمِهِ رأسُهُ أبعدَا
وأدفَقَ منحَرُهُ مَيزبًا = من الدم ألبسَهُ مَجسِدا
يُكبِرُ والرأسُ في كفِّهِ = من النصبِ في ما يظنُ اهتدى
وأعلاه مُفتخرًا فبدى = على ذروةِ الرُمحِ مُتقِدا
فهبت رياحٌ كريحِ ثمود = وصار المدى أحمرًا أسودًا
وسُحبُ السماءِ دمًا أمطرت = وبارِقُها صعِقًا أرعدَا
وقلبُ العليلِ على نُطعهِ = تفطرَ بالخدرِ وانمردَا
وصاح بعمَتِهِ هَيِئي = حَصانَ النساءِ لسبيِ العدا
وهتكِ الستورِ وحرقِ الخدورِ = وصدِّ المُغيرِ إذا ما اعتدى
ونزعِ القراطِ ولسعِ السياطِ = بِكفِ الحقودِ إذا جَلدَا
ووكزِ الرماحِ وسيلِ الجراحِ = بخدٍ من اللطمةِ استوقدَا
وسلبِ الحجابِ وكشفِ النقابِ = وتعوضيهِ بالجُموعِ يدا
فلا تصرُخي يا كفيلي العدا = أغارت فإن الكفيلَ غدى
عليه اللواءُ وجودُ السقاء = بوعدِهِ و الغيرةِ مُددا
فلولا العمودُ وقطعُ الزنود = لجاء يُوفي بما وعدَا
فلا ترفعي الصوتَ يابن أبي = بخدريَ شِمرُ الخنا عربدَا
فإن الحسينَ بلا رأسِه = فكيفَ يقوم لكِ جَسدا؟
أيأخُذُ رأسَهُ من رُمحِهِ = و يأتيك يا زينبٌ مُنجدا؟
توسَدَ من نَحرِهِ ظامئً = ولا يُحصى مِن جُرحهِ عددا
فمدي اليدينِ لأغلالهم = إذا قربوا النوقَ والأصفُدَا
فإنَ الزمانَ أطاحَ بِكُم = وهدَّ البناءَ الذي شُيدَا
ولفَّ الحبالَ على عُنُقي = وحزَّ المعاصِمَ والأعضُدا
وألوى على سِترُكُم يَدهُ = وجاذَبكُم مِئزرًا وردا
وقيدكُم بالسباءِ وما = أذَل الأسيرَ إذا قُيِدَا
وأهوى بتاجِ معزتِكُم = وطوقكُم ذُلَهُ مَقلَدا
فلا سَكَنَ الجُرحُ من كربلاء = ولا طرفُكم بالسُرى هوَّدَا
وصرختُكم يالثارِ الحُسين = ستعلوا بحُرقتِها أبدا
إلى أن يقومَ عظيمُ المقام = بقرعِ السيوفِ يَرُدُ الصدى
ويُصبِحُ كُلُ الزمانِ لكم = ومن يدِكُم مُلكُه يُجتدى
وتبسِطُ راحاتُكم جودهُ = فلو قُبِضَت عزَّ أن يرفِدَا