لا تركنوا إلى الحَياةِ الدُنيا
فإنَّ هذا الكَونَ سَوفَ يَفنى
فَفي غدٍ (إذا السماءُ انفَطرَتْ)
ودُمِّرتْ كَواكِبٌ وانتثرتْ. (١)
إذا البِحارُ _ بالدمارِ _ فُجِّرتْ
ونحنُ مَوتى والقُبورُ بُعثرتْ. (٢)
والنفسُ باليقينِ لمَّا أبصرتْ
تَعلمُ ما قد قدَّمتْ وأخَّرتْ
ما قدَّمتْهُ أولَ العمرِ وما
جَرى بهِ وما بهِ قد خُتِما
هل قدَّمَ الدُنيا على الآخرةِ
أم قدَّمَ التُقى على المَلذةِ؟
هل قدَّمَ الأعمالَ في حَياتِهِ
وادَّخرَ الخَيرَاتِ في مَمَاتِهِ
فَصَارَ يَشتري الجِنانَ البَاقيةْ
طُوبى لهُ بالصدقاتِ الجاريةْ. (٣)
يا أيُّها المغرورُ بالجَهالةِ
غفلتَ عن ربِّكَ ذي الجلالةِ
هُو الكَريمُ وهو من قد خَلَقَكْ
سوَّاكَ خالقُ الوَرَى قد عَدَلَكْ
في أيِّ صُورةٍ تُرَى قدْ ركَّبكْ. (٤)
سُبحانَكَ اللهمَّ والتمجيدُ لَكْ
قد أُغرقَ الغافلُ في الغُرورِ.
مكذِّبًا بالبَعثِ والنُّشورِ
وَكَذَّبَ الدينَ كفورٌ أرعنُ
فكيفَ في الحشرِ غدًا سيأمنُ؟
وأرسلَ اللهُ لنا الحافظينْ
كانوا لأعْمالِ الوَرى كَاتبينْ
يُسجلون في الكتاب العملا؟
من في الحَضيضِ صَارَ أو مَن قد علا. (٥)
فليهنأ الأبرارُ بالنعيمِ
وليُحرقِ الفجارُ في الجَحيمِ
يَصلونَ نارَ البؤسِ يومَ الدينِ
مَن اقتدوا بالظالمِ اللعينِ
حَياتُهمْ جَهَنَّمٌ والبرزخُ
قد عَادَوُا الحقَّ وهُم لمْ يَرضَخُوا
ليسُوا عن النارِ بِغائِبِينا
وهلْ سيهدي اللَّهُ الظَالِمِينا؟. (٦)
قد عظَّمَ الجبَّارُ يومَ الدينِ
فكنْ بِما قالَ على يَقينِ
النفسُ لا تملكُ شيئًا أبدَا
والأمرُ في المَحْشَرِ لِلهِ بَدَا. (٧)
Testing
المصادر :
(١) في إشارة إلى قوله تعالى : (﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)).
(٢) في إشارة إلى قوله تعالى : ( وَإِذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
(٣) قال في الأمثل :
وبعد ذكر كلّ تلك العلائم لما قبل البعث ولما بعده، تأتي النتيجة القاطعة: (علمت نفس ما قدّمت وأخّرت).
نعم، فستتجلى حقائق الوجود، وسيصير كلّ شيء بارز إنّه "يوم البروز" وسيرى الإنسان كلّ أعماله محضرة بخيرها وشرّها، لأنّه يوم إزالة الحجب، ورفع مبررات الغرور والغفلة، وعندها... سيعلم الإنسان ما قدّم لآخرته، وما ترك بعده من آثار حسنها وسيئها، مثل: الصدقة الجارية، فعل الخير، عمارة الأبنية، الكتب التي ألفها، ما سنّ من السنن... فإن كان ما خلّفه خالصاً للّه فسينال حسناته، وإنْ كانت نيّة أفعاله غير خالصة للّه فستصل إليه سيئات تبعاته.
وهذه نماذج من الأعمال التي ستصل نتائجها إلى الإنسان بعد الموت، وهو: المراد من "وأخّرت".
صحيح أنّ الإنسان يعلم بما عمل في دنياه بصورة إجمالية، لكنّ حبّ الذات والإشتغال بالشهوات والنسيان غالباً ما ينسيه ما قدّمت يداه، فيتغافل عن النظر إلى ما بدّ منه، أمّا في ذلك اليوم الذي سيتحول ويتغير فيه كلّ شيء حتى روح الإنسان فسيلتفت إلى ما قام به من عمل بكلّ دقّة وتفصيل، كما تشير إلى ذلك الآية (30) من سورة آل عمران: (يوم يجد كلّ نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء)، فكلٌّ سيرى كلَّ أعماله حاضرة مجسمة أمام عينه.
وقيل: "ما قدّمت"، إشارة إلى أعمال أوّل عمر الإنسان، و"أخّرت"، إشارة إلى أعمال آخر عمره.
ويبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب من جميع الجهات.
ويراد ب "نفس" الواردة بالآية، كلُّ نفسِ إنسانية.
(٤) في إشارة إلى قوله تعالى : ﴿يَأَيُّهَا الإِنْسَنُ مَا غَرَّكَ بِرَّبِكَ الكَرِيمِ (6) الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِى أَىِّ صُورَة مَّآ شَآءَ رَكَّبَكَ (8).
(٥) في إشارة إلى قوله تعالى : (كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وإِنَّ عَلَيكُمْ لَحَفِظِينَ (10) كِرَامَاً كَتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)﴾.
(٦) في إشارة إلى قوله تعالى : (﴿إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِى نَعِيم (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جحِيم (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّين (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ)
وقال في الأمثل: "ويمكن أنْ يراد بقوله تعالى: (إنّ الأبرار لفي نعيم وإن الفجّار لفي جحيم) الحال الحاضر، أيّ: إنّ الأبرار يعيشون في نعيم الجنّة حاليّاً، وإنّ الفجّار قابعون في أودية النّار، كما يفهم من إشارة الآية (54) من سورة العنكبوت: (إِنَّ جهنّم لمحيطة بالكافرين).
وقال بعض: المراد من الآيتين هو حتمية الوقوع المستقبلي، لأنّ المستقبل الحتمي والمضارع المتحقق الوقوع يأتي بصيغة الحال في اللغة العربية، وأحياناً يأتي بصيغة الماضي.
فالمعنى الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية، إلاّ أنّ المعنى الثّاني أنسب للحال، واللّه العالم.
وتدخل الآية التالية في تفصيل أكثر لمصير الفجّار: (يصلَونها يوم الدين).
فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى أنّ الفجّار هم في جهنّم حالياً، فسيكون إشارة هذه الآية، إلى أنّ دخولهم جهنّم سيتعمق، وسيحسون بعذاب نارها، بشكل أشدّ.
"يصلون": من (المصلى) على وزن (سعي)، و"صلى النّار": دخل فيها، ولكون الفعل في الآية قد جاء بصيغة المضارع، فإنّه يدل على الإستمرار والملازمة في ذلك الدخول.
ولزيادة التفصيل، تقول الآية التالية: (وما هم عنها بغائبين).
(٧) في إشارة إلى قوله تعالى : ( وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْس شَيئَاً والاَْمْرُ يَوْمَئِذ للّهِ (19)﴾.