في ليلة العاشر من محرم سنة 1948 القى شاعر العراق الخالد بدر شاكر السياب قصيدته التالية في ثانوية العشار في البصرة في حشد ضم اكثر من الف و خمسمائة مستمع . القصيدة تشكّل نموذجا ً متميزاً لشعر الرثاء عامة و للمراثي الحسينية خاصة. فالشاعر يعقد مقارنة بين شخصيتي الامام الشهيد الحسين والطاغية يزيد، بادئا ً برسم صورة الطاغية ومنتهيا بصورة الشهيد. و خلال القصيدة تتداخل حشود من صور العذاب تبدو كأنها مستوحاة من "رسالة الغفران للمعري" او من " جحيم دانتي " يجعل منها الشاعر نذيرا ً لمصير الطاغية. ويستوحي الشاعر من رؤى عقيلة بني هاشم زينب اخت الحسين عليهما السلام ما يصور مشاهدالمأساة حتى النهاية .. انها قصيدة متميزة لشاعر متميز.
هذه القصيدة سبق أن نُشرتْ مع قصائد وكلمات لآخرين في رثاء سيد الشهداء الحسين عليه السلام مما قيل في ذلك المهرجان في كتاب مستقل صدر في نفس السنة 1948 و منه نقلها رضا الصخني الى قراء العربية في العالم . رحم الله الشاعر بدر شاكر السياب
خطاب الى يزيد
بدر شاكر السياب
ارمِ السماءَ بنظرة استهزاءِ=واجعل شرابك من دم الأشلاءِ
واسحق بظلّك كلَّ عرض ناصعٍ=وأبح لنعلك أعظم الضعفاءِ
واملأ سراجك إن تَقَضّى زيتهُ=مما تدرُّ نواضب الأثداءِ
واخلع عليه كما تشاء ذبالةً=هدب الرضيع وحلمة العذراءِ
واسدر بغيّك يا يزيد فقد ثوى=عنك الحسين ممزَّق الأحشاءِ
والليل أظلم والقطيع كما ترى=يرنو إليك بأعين بلهاءِ
أحنى لسوطك شاحباتِ ظهوره=شأن الذليل ودبَّ في استرخاءِ
وإذا اشتكى فمن المغيث وإن غفا=أين المهيب به إلى العلياءِ
مثَّلت غدرك فاقشعرَّ لهولِه=قلبي وثار وزلزت أعضائي
واستقطرت عيني الدموع ورنّقت=فيها بقايا دمعةٍ خرساءِ
يطفو ويرسب في خيالي دونها=ظلٌّ أدقُّ من الجناح النائي
أبصرت ظلك يا يزيد يرجُّه=موجُ اللهيب وعاصف الأنواءِ
رأس تكلّل بالخنا واعتاض عن=ذاك النضار بحيَّة رقطاءِ
ويدان موثقتان بالسوط الذي=قد كان يعبث أمسِ بالأحياءِ
قم فاسمع اسمك وهو يغدو سبّةً=وانظر لمجدك وهو محض هباءِ
وانظر إلى الأجيال يأخذ مقبلٌ=عن ذاهب ذكرى أبي الشهداءِ
كالمشعل الوهّاج إلا أنها=نور الإله يجلّ عن إطفاءِ
عصفت بي الذكرى فألقت ظلّها=في ناظريَّ كواكب الصحراءِ
مبهورة الأضواء يغشى ومضها=أشباح ركب لجَّ في الإسراءِ
أضفى عليه الليل ستراً حِيك من=عرف الجنان ومن ظلال (حراءِ)
أسرى ونام فليس إلاّ هِمَّة=باسم الحسين وجهشة استبكاءِ
تلك ابنة الزهراء ولهى راعها=حلمٌ ألمَّ بها مع الظلماءِ
تنبي أخاها وهي تخفي وجهها=ذعراً وتلوي الجيد من إعياءِ
عن ذلك السهل الملبَّد يرتمي=في الاُفق مثل الغيمة السوداءِ
يكتظّ بالأشباح ظمأى حشرجت=ثم أشرأبَّت في انتظار الماءِ
مفغورة الأفواه إلا جثَّة=من غير رأس لُطّخت بدماءِ
زحفت إلى ماء تراءى ثمّ لم=تبلغه وانكفأت على الحصباءِ
غير الحسين تصدّه عما انتوى=رؤيا فكُفَّي يابنة الزهراءِ
مَن للضعاف إذا استغاثوا والتظت=عينا (يزيد) سوى فتى الهيجاءِ
بأبي عطاشى لاغبين ورضّعاً=صُفر الشفاه خمائص الأحشاءِ
أيد تمدُّ إلى السماء وأعينٌ=ترنو إلى الماء القريب النائي
طام أحلّ لكل صاد ورده=من سائب يعوي ومن رقطاءِ
عزَّ الحسين وجلَّ عن أن يشتري=ريَّ الغليل بخطَّة نكراءِ
آلى يموت ولا يوالي مارقاً=جمّ الخطايا طائش الأهواءِ
فليصرعوه كما أرادوا إنما=ما ذنب أطفال وذنب نساءِ
عاجت بي الذكرى عليها ساعةً=مرَّ الزمان بها على استحياءِ
خفقت لتكشف عن رضيعٍ ناحلٍ=ذبلت مراشفه ذبول خباءِ
ظمآن بين يدي أبيه كأنه=فرخ القطاة يدفُّ في النكباءِ
لاح الفرات له فأجهش باسطاً=يمناه نحو اللجَّة الزرقاءِ
واستشفع الأبُ حابسيه على الصدى=بالطفل يومئ باليد البيضاءِ
رجّى الرواء فكان سهماً حزَّ في=نحر الرضيع وضحكة استهزاءِ
فاهتزَّ واختلج اختلاجة طائرٍ=ظمآن رفَّ ومات قرب الماءِ
ذكرى ألمّت فاقشعرَّ لهولِها=قلبي وثار وزلزلت أعضائي
واستقطرت عيني الدموع ورنَّقت=فيها بقايا دمعة خرساءِ
يطفو ويرسب في خيالي دونها=ظلٌّ أدقُّ من الجناح النائي
حيران في قعر الجحيم معلّقٌ=ما بين ألسنة اللظى الحمراءِ
بدر شاكر السيّاب البصرة