أبو المحاسن نصر الله بن عنين الدمشقي
ابن عنين
549 - 630 هـ / 1154 - 1232 م
محمد بن نصر الله بن مكارم بن الحسن بن عنين أبو المحاسن شرف الدين الزرعي الحوراني الدمشقي الأنصاري.
شاعر عباسي من أعظم شعراء عصره، مولده ووفاته بدمشق، كان يقول أن أصله من الكوفة، من الأنصار.
كان هجاءً، قل من سلم من شره في دمشق، حتى السلطان صلاح الدين، ذهب إلى العراق والجزيرة وأذربيجان وخراسان، واليمن ومصر.
وعاد إلى دمشق بعد وفاة صلاح الدين فمدح الملك العادل وتقرب منه، وكان وافر الحرية عند الملوك.
وتولى الكتابة والوزارة للملك المعظم، بدمشق في آخر دولته، ومدة الملك الناصر، وانفصل عنها في أيام الملك الأشرف فلزم بيته إلى أن مات.
وجاء في "وفيات الأعيان" لابن خلكان: هو أ بو المحاسن محمد بن نصر بن الحسين بن عنين الأنصاري، الملقب شرف الدين، الكوفي الأصل الدمشقي المولد الشاعر المشهور؛ كان خاتمة الشعراء لم يأت بعده مثله، ولا كان في أواخر عصره من يقاس به، ولم يكن شعره مع جودته مقصوراً على أسلوب واحد بل تفنن فيه، وكان غزير المادة من الأدب مطلعاً على معظم أشعار العرب، وبلغني أنه كان يستحضر نقل كتاب "الجمهرة" لابن دريد في اللغة، وكان مولعاً بالهجاء وثلب أعراض الناس، وله قصيدة طويلة جمع فيها خلقاً من رؤساء دمشق سماها "مقراض الأعراض". وكان السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، قد نفاه من دمشق بسبب وقوعه في الناس، فلما خرج عمل:
فعلام أبعدتم أخا ثقة
لم يجترم ذنباً ولا سرقا؟
انفوا المؤذن من بلادكم
إن كان ينفى كل من صدقا
وطاف البلاد من الشام والعراق والجزيرة وأذربيجان وخراسان وغزنة وخوارزم ما وراء النهر، ثم دخل الهند واليمين وملكها يومئذ سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى- المذكور في حرف الطاء - وأقام بها مدة، ثم رجع إلى الحجاز والديار المصرية، وعاد إلى دمشق، وكان يتردد منها إلى البلاد ويعود إليها. ولقد رأيته بمدينة إربل في سنة ثلاث وعشرين وستمائة ولم آخذ عنه شيئاً، وكان قد وصل إليها رسولاً عن الملم المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق، وأقام بها قليلاً، ثم سافر وكتب من بلاد الهند إلى أخيه وهو بدمشق هذين البيتين، والثاني منهما لأبي العلاء المعري استعمله مضمناً فكان أحق بها، وهما:
سامحت كتبك في القطيعة عالماً
أن الصحيفة لم تجد من حامل
"وعذرت طيفك في الجفاء أنه
يسري فيصبح دوننا بمراحل"
لله دره فما أحسن ما وقع له هذا التضمين. وقد كرر هذا المعنى في مواضع من شعره: فمن ذلك قوله من جملة قصيدة طويلة:
ألا يا نسيم الريح من تل راهط
وروض الحمى، كيف اهتديت إلى الهند
وقوله من أبيات وهو في عدن اليمن:
أأحبابنا لا أسأل الطيف زورة
وهيهات، أن أين الديلميات من عدن؟
الديلميات وتل راهط والحمى: أسماء مواضع من ضواحي دمشق، والبيت الذي للمعري قبله:
وسألت كم بين العقيق إلى الحمى
فعجبت من بعد المدى المتطاول
والمعري أخذا هذا المعنى من دعبل بن علي الخزاعي الشاعر- المقدم ذكره - فإنه كان قد هجا الخليفة المعتصم بالله بن هارون الرشيد، فطلبه، فهرب من العراق إلى الديار المصرية وسكن بأسوان في آخر بلادها، وقال في ذلك:
وإن امرءاً أضحت مطارح سهمه
بأسوان لم يترك من الحزم معلما
حللت محلاً يحسر الطرف دونه
ويعجز عنه الطيف أن يتجشما
ولما مات السلطان صلاح الدين ومللك الملك العادل دمشق كان غائباً في السفرة التي نفي فيها، فسار متوجهاً إلى دمشق، وكتب إلى الملك العادل قصيدته الرائية يستأذنه في الدخول إليها ويصف دمشق ويذكر ما قاساه في الغربة، ولقد أحسن فيها كل الإحسان واستعطفه أبلغ استعطاف، وأولها:
ماذا على طيف الأحبة لو سرى
وعليهم لو سامحوني بالكرى
ووصف في أوائلها دمشق وبساتينها وأنهارها ومستلزماتها، ولما فرغ من وصف دمشق قال مشيراً إلى النفي منها:
فارقها لا عن رضاً، وهجرتها
لا عن قلى، ورحلت لا متخيرا
أسعى لرزق في البلاد مشتتٍ
ومن العجائب أن يكون مقترا
وأصون وجه مدائحي متقنعاً
وأكف ذيل مطامعي متسترا
ومنا يشكو الغربة وما قاساه فيها:
أشكو إليك نوى تمادي عمرها
حتى حسبت اليوم منها أشهرا
لا عيشتي تصفو، ولا رسم الهوى
يعفو، ولا جفني يصافحه الكرى
أضحي ع الأحوى المريع محلاً
وأبيت عن ورد النمير منفرا
ومن العجائب أن يقبل ظلكم
كل الورى، ونبذت وحدي بالعرا
وهذه القصيدة من أحسن الشعر، وعندي هي خير من قصيدة أبي بكر ابن عمار الأندلسي التي أولها- وهي على وزنها ورويها وقد تقدم ذكر شيء منها في ترجمته-:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى
فلما وقف عليه الملك العادل أذن له في الدخول إلى دمشق، فلما دخلها قال:
هجوت الأكابر في جلقٍ
ورعت الوضيع بسب الرفيع
وأخرجت منها ولكني
رجعت على رغم أنف الجميع
وكان له في عمل الألغاز وحلا اليد الطولى، فمن كتب إليه بشيء منها حله في وقته وكتب الجواب أحسن من السؤال نظماً. ولم يكن له غرض في جمع شعره، فلذلك لم يدونه، فهو يوجد مقاطيع في أيدي الناس، وقد جمع له بعض أهل دمشق ديواناً صغيراً لا يبلغ عشر ما له من النظم، ومع هذا ففيه أشياء ليست له.
وكان من أظرف الناس وأخفهم روحاً وأحسنهم مجوناً، وله بيت عجيب من جملة قصيدة يذكر فيها أسفاره ويصف توجهه إلى جهة الشرق، وهو:
أشفق قلب الشرق حتى كأنني
أفتش في سودائه عن سنا الفجر
كان وافر الحرمة عند الملوك، وتولى الوزارة بدمشق في آخر دولة الملك المعظم ومدة ولاية الملك الناصر ابن المعظم، وانفصل عنها لما ملكها الملك الأشرف وأقام في بيته، ولم يباشر بعدها خدمة. وكانت ولادته بدمشق يوم الاثنين تاسع شعبان سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وتوفي عشية نهار الاثنين لعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاثين وستمائة بدمشق أيضاً، ودفن من الغد بمسجده الذي أنشأه بأرض المزة، وهي- بكسر الميم وتشديد الزاء - قرية على باب دمشق، رحمه الله تعالى.
قال ابن الدبيثي: سمعته يقول: إن أصلنا من الكوفة من موضع يعرف بمسجد بني النجار، ونحن من الأنصار؛ قلت: هكذا نقلته أولاً، ثم إني زرت قبر بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمقابر باب الصغير ظاهر دمشق، فلما خرجت من تربته وجدت على الباب قبراً كبيراً فقيل لي: هذا قبر ابن عنين، فوقفت وترحمت عليه.