الحاج زاير الدويج
الحاج زاير الدويج الشاعر الأمي الذي نازل الفصيح بنبوغه الشعري
يقول عنه المستشرق الفرنسي جاك بيرك انه اكبر شاعر شعبي في العراق وقصائده تدوي على كل الشفاه وتلهب في الناس محبة اهل البيت (عليهم السلام) ولعل البحث في شعر الحاج زاير سيتطلب الكثير من المراجعة لما يمتلكه من موهبة متفردة وسرعة بديهية لملكة حاضرة ولغة شعرية مدروسة بعناية ممن شاء لها ان تأخذ شكلا حداثويا مبتعدا عن الغور في عاميتها المفرطة، وصورا ومرادفات وبناء محكما بجماليات وتعابير فنية رائعة لمدرسة هو اميرها بحق، ناهيك عن مواقفه الوطنية ابان السيطرة العثمانية وحبه للغناء كونه يمتلك صوتا شجيا ويتمتع بروح الفكاهة والسخرية المهيمنة في موالاته والمتمثلة بالحكمة وقوة الحضور ومجسدا بوجدانية فضاء شعرياً واسعاً يبلغ مديات لا افق لها، ومخيلة خصبة وقابلية ثقافية مطلعة خاصة مع روائع ما كتب في الفصيح ومنازلته لها عاميا وهو عراب شعراء الابوذية والموال، والحاج زاير المولود في منطقة بيرس الواقعة بين بابل والنجف، ولم يبلغ الستين من عمره، كيف لنا ان نبلغ شعره وهو يقول في مقطع من قصيدة (للهم ما تصح عوانه):
ما تعلم بهمي شلون .. شيبت واصفر اللون
والناس كالت مجنون .. بعكلي اقنعت بس آنه!!
ولد هذا النجم الساطع عام 1860م/1276هـ في قصبة برس – بورسيبا - المحاذية لبابل والمقاربة للنجف وهي منطقة عميقة القدم !! الحاج زايربن الحاج عسكورة بن علي بن جبر من قبيلة بني مسلم نسبة الى ابي المكارم مسلم بن قريش بن بدران بن مقلد العبادي !! وبنو مسلم فخذ من قبيلة طفيل العربية المنتسبة الى طفيل بن عامر القيسي وتقطن بنو مسلم على ضفاف الفرات فرع الهندية ضمن منطقة نبي الله ذي الكفل (ع)!!.
وقد زار والده مدينة النجف التي كانت وما لبثت قبلة كل قروي طموح !! هذه المرة اصطحب عسكورة معه صغيره ( زاير ) وزاير فيه عبق التيمن بزيارة مرقد الإمام علي عليه السلام , فمعنى اسم زاير عند اهل الفرات هو الذي زار العتبات المقدسة او انه موعود بزيارتها !! زاير الصبي الذي يرى النجف اول مرة فيفتح عينيه على وسعهما مندهشا من مدينة تبتكر أفراحها وأتراحها ولا تكل من الاحتفالات ولا تملها !! زاير يرقب المباهج التي تفتقدها قصبة بيرس !!.
و ها هو الحاج زاير وقد اضحى جنديا في نهاية العهد العثماني !! فأرسل الى حامية قطر ! وهناك كان ينفس عن حزنه بتنهدات بلغ من تناسقها وعمقها ان جعلت رفاقه المجندين يتحلقون حوله مما حمل القيادة على الإشفاق عليه وصرفه الى منزله، وها هو يعود الى السفر عام 1914م وكانت العودة مناسبة لنظم الأغاني حول مواضيع بطولية !! ولسوء الحظ يهاجم الأنكليز البصرة فيتقدم العلماء الصفوف على راس معركة الدفاع ضد اعداء الدين ويضطر الحاج زاير بعد استنكاره لإنسحاب العثمانيين، يضطر الى الإختباء في الكوفة ثم يعود للظهور في بغداد ! ويراه الناس في جامع الحيدر خانة حيث يدعوه احد السادة الى الحرب المقدسة وكان ذلك كافيا لإثارة قريحة الشعر عند الحاج زاير ! فهو يتهيج من هياج الناس فيرتجل مرة اخرى عواطفه النبيلة في شعر مؤثر.
توفي الحاج زاير 1919م/1337هـ !! وقد أغمض عينيه والشاعر مخلوق موسوم بالرؤيا فهو يرى امورا لا يراها غيره فيحار الناس في امره، ويبدو ان الحاج زاير سئم الدنيا وهو في عز نضجه وضاق صدره وهو حبيب الناس وربما تعجل الحاج زاير أجله، و كما يذكر الاستاذ البروفيسور د. عبد الاله الصائغ حين ذكر كيف انه رثى نفسه بشعره تماما كما فعل سلفه مالك بن الريب بيائية باذخة الجمال والغريب حقا والكلام للدكتور الصائغ، ان الحاج زاير تفوق على سلفه مالك بن الريب حين حدد ميقات موته الى محبيه بدقة متناهية فسيموت قبل ان يطلع الفجر:
وحك التين والزيتون والمن .. اجروحي الطابن امن اسنين ولمن
السدر والجفن والكافور والمن .. كَبل طرت الفجر يسرون بيه
ولغرض المقارنة نضع تلك الابيات لابن الريب وهو يرثي نفسه ويقترح على اصحابه دفنه:
الا ليت شعري هل ابيتن ليلة .. بوادي الغضا ازجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الدرب عرضه .. وليت الغض ماشي الركاب لياليا
لقد كان في وادي الغضا لودنى الغضا .. مزار ولكن الغضا ليس دانيا
خذاني فجراني ببردي اليكما .. فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
وخطا باطراف الاسنة مضجعي .. وردا على عيني فضل ردائيا
ولا تحشراني بارك الله فيكما .. من الارض ذات العرض ان توسعا ليا
يبقى ان نذكر ان الحاج زاير قد خط له اسلوبا ادبيا مرتكزا على واقع اجتماعي منقول بصدق وعفوية ومجابهة شعرية لكل ما هو مفسد من علاقات وظواهر غريبة ومتعسفة وهو الراوي لكل الاحداث والمشكلات سواء على صعيد حياته الشخصية والمجتمع الذي يسخر او يصرخ بناء على حاجة الشعر للانسان ومواقفه وتقلباته ورفضه وانصهاره حتى آخر رمق شعري فيه!!.
ماقيل في زاير:
حين ذكرنا وصف جاك بيرك وهو المستشرق الفرنسي نركز على ما تعرض له المهتمون بالشعر الشعبي العراقي وتحديدا لشعر الحاج زاير بمقولات تؤكد نبوغه واحاطته بعالم الشعر وفنه والغاية من ادب لم يزل يعني الكثير من شرائح المجتمع والدارسين والباحثين في هذا الاختصاص ومن تلك الشعرية التي استنطقت الواقع العراقي بكل إرثه وتأثره وتأثيره عبر منظومة انسانية لها حواسها ومزاجيتها وعاطفتها التي صورت بذات الشعر لوحات فنية رائعة وامثلة حياتية تصب وتتعلق بجذرنا الشعبي اينما حلت الظروف وكيف شاء الزمن، حيث يقول عنه المؤرخ الكبير السيد عبد الرزاق الحسني، ان الحاج زاير اسرع شعراء عصره بديهة وينشد القصيدة التي تبلغ المئة بيت ارتجالا وفي آن واحد فيخال السامع انه كان يحفظها منذ مدة دون اعمال فكره وله اليد الطولى في الموال والابوذية والمربع والميمر، وكذلك يذكر الاستاذ حسن الاسدي بانه اشعر شعراء (الحسكة) على الاطلاق وشعره صورة ناطقة لحوادث عصره وتقاليد مجتمعه وسيرة مواطنيه والجيل الذي عاصره والجيل الذي تلاه يردد باعجاب وفجر اشعاره التي يجد فيها كل شخص ما يوافق طلبه ويلائم غرضه وهذه هي ميزة الخلود التي تمتع بها سلفه المتنبي، وما يذكر عن الشاعر شاكر السماوي حيث يرى ان الحاج زاير بمثابة امام الشعر والشعراء ليسوا سوى زوار في صحن الحاج زاير، وما أرخ شعرا على لسان السيد محمد جمال الهاشمي:
وزاير في الشعر انشودة .. غنى بها البادي مع الحاضر
هلهل في قيثاره مطربا .. ايامه في لحنه الساحر
والرثاء الذي ورد على لسان صديقه وتربه وحافظ شعره السيد علي القصير بن السيد محمد بن السيد عبودي الحسيني، كما يؤرشف الأستاذ د.عبد الاله الصائغ وهو الموسوعي العراقي الكبير اذ يقول السيد القصير:
اذا امعنت في لوح المصاير .. وجدت الخلق للمجهول ساير
وآية قولنا علم فطحل
بسبك الشعر يدعى حجي زاير .. فقد وهب القصيد مذهبات
وابكارا خوالد في الضماير!
نزالات عامية:
ندرك دائما بان الشعر يستمد في بعض خطاباته من خزين ما يحصل عليه الشاعر ومدى وعيه وثقافته وفطنته، وللحاج زاير ذلك الوعي الفطري الممزوج بثقافة هي اصلا منطوية على مجسات واستشعار اتاح لتلك الثقافة والقريحة المهيأة دائما لايصال الرد او بالاحرى (التناص)، عدا تضمينه للمفردات السماوية المذكورة في القرآن الكريم بلغة غير رمزية وبالغة في الوصف، ولحشد الفكرة من هذا التناص والذي يصفه د. عبد الاله الصائغ مع المثل الشعري بانه يسمى في علم البلاغة استعارة تمثيلية ومع القرآن الكريم يسمى الاقتباس ولكل حالة مصطلحها موثقا اياها حين حوصر المتنبي العظيم لانه يضع المعاني التي سبق اليها في شعره اذ يقول (الشعر جادة وقد يقع الحافر على الحافر)، ومن هذه (التناصات) التي اسميتها نزالات عامية هي المقارنة كما يصفها الدكتور الصائغ بالتناصات الاغترابية، وهذه نماذج منها:
ابو فراس الحمداني:
ايا جارتا ما انصف الدهر بيننا .. تعالي اقاسمك الهموم تعالي
الحاج زاير:
نحل جسمي وتظل روحي تعالي .. هبطنه والنذل بينه تعالي
يجارة الدهر ما انصف تعالي .. نخلط همومنا ونجسم سوية
عروة بن حزام:
هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى .. واني واياها لمختلفان
الحاج زاير:
وحك المرتضى ايمامك وامامي .. عبيط الدمع لفراكك وما ماي
هوه الناكه لفة خلفي وما ماي .. الهوه مدري لوين ايريد بيه
شاعر قديم:
احباي لو غير الحمام اصابكم .. عتبت ولكن ما على الموت معتب
زاير:
آنه انشر للهوه وما طلع حباي .. ومن ضعفي غديت انحيل حباي
لون غير الحمام ايصيب حباي .. عتبت ولا عتاب اعله المنيه
شاعر قديم:
الخيل عندك ملتها مرابطها .. والبيض منها عرا اغمادها السأم
زاير:
اجبود ابجمر من الوكت ملت .. وكلوب الناس من الهجر ملت
مرابط خيلك من الخيل ملت .. وبيض اسيوفكم امست صديه
شاعر قديم:
لا يعرف الشوق الا من يكابده .. ولا الصبابة الا من يعانيها
زاير:
من هل بله جاني المرض .. ويطول حجيك ويعرض
لا تنشد الخالي الغرض .. انشد ال بالشوك ابتله
الشاعر القديم:
وكم علمته نظم القوافي .. فلما قال قافية هجاني
زاير:
ما حلب وياي صافي .. وعكبه جفني موش غافي
آنه علمته القوافي .. ومن تعلمها هجاني
الشاعر القديم:
لو بات من اهواه وسط حشاشتي .. قلت ادن مني ايها المتباعد
زاير:
نحل جسمي وزاد اليوم مرضاي .. على اللي ما شفت له شخص مرضاي
لو بات الترف بحشاي مرضاي .. اكله اكرب يهل مبعد عليه
وفي الامثال:
ذهب بالعنب والسلة او خذ العنب واعطني السلة
زاير:
من عكب زين المحاجي عاد سلتنه .. صرنه خلف ما تفيد السيف سلتنه
من فوك هذا الضعف دنياك سلتنه
يهل الهوه ممتحن كلبي خذوني لكم .. لو تنستر دمعتي بيدي ابجفاكم لكم
عفنه العنب ما نريده يارفاكه لكم
لاجن نباري بعد وانريد سلتنه
من بعض ابوذيات الزاير:
اهل هل وكت بالك تمن بيهم .. ادنان وعيب يحصل تمن بيهم
ثلاث من الخصايل تمن بيهم .. الجذب والفتن والشوفة الرديه
***
يعاذل نار شوكي هل تمسني .. اهديني الشوف حبي والتمسني
بجه من مد يمينه والتمسني .. لكاني نفس ما مش جسد بيه
***
الزمان وي الجواد بسكم كصرن .. ويبني بيوت للانذال كصرن
الكصير يطول وال بي طول كصرن .. الصكر يطلب من البومه هديه!
***
الزمان وي الجواد بسكَم كَصرن .. ويبني بيوت للأنذال كَصرن
الكَصير يطول وال بي طول كَصرن .. الصكَر يطلب من البومة هديه
***
ما يكَ أهل هل وكت بالك تمن بيهم .. إدنان وعيب يحصل تمن بيهم
ثلاث من الخصايل تمن بيهم .. الجذب والفتن والشوفة الردية
***
نحل جسمي وتظل روحي تعالي .. هبطنه والنذل بينه تعالي
يجارة الدهر ما انصف تعالي .. نخلط همومنا ونجسم سوية
زهيريات:
يا صاح عودي ذبل وبكل دوا ما يصح .. والدمع سال وجره من ناظري ما يصح
والنيب مثلي ابحنينه لو صحت ما يصح
من حيث مضروب ما بين الجوانح تبن .. بمعالج الروح سري لم اموتن تبن
لا تنهضم عل سبع لو صار علفة تبن
واليوم حتى التبن علف السبع ما يصح
*** *** ***
من يوم فركاك جسمي من صدودك عود .. هيهات عكبك يسليني نديم وعود
كلما اعدل النفس روحي تكلي عود
لي صاحبن كط محد كال اله لوله .. وحياة من بالمهد جبريل اله لوله
لو ما يكولون واعرف بالحجي لوله
جنت احجي وياك لا جن بالزبيبه عود
*** *** ***
يا بلحسن ضاك صدري والحشه حامي .. من جور دهري عليَّ ابسطرته حامي
مامن مجيرن سواكم للدخل حامي
هل يوم كلت يحيدر حرفتي والحيل .. والسمع مني ذهب بعد الظهر والحيل
عني توانو جفوني خلِّتي والحيل
وامسيت جتَّان ياحامي الحمة حامي
*** *** ***
جم دوب أهج هاج ما جن الذرى ولفاي .. امهجول ولا عاود الديرة هلي ولفاي
ما اطلب اديارهم طاري الفلا ولفاي
هايم بالوهاد من يوم النوى بالراح .. مذهول مذعور حاير بس ادكَـ بالراح
جنة وجانوا وجان إلنه الهنا والراح
لا جنه جنه ولا جنهم كَبل ولفاي
*** *** ***
دار الملوك اظلمت عكَب الضوة بسروج .. يهناك دمعي يكت إعله الوجن بس روج
والخيل لمن تردَّت واضلعت بسروج
والكدش اصبح لها عزمٍ شديد وباس .. والزين دنَّكَـ على جف الزنيم وباس
والشهم لو عاشر الأنذال ما هو باس
من جلَّة الخيل شدو عل جلاب اسروج
*** *** ***
جم دوب أدافع عواذل ياخلكَـ بالهوش
حتى دعوني شبيه السارحه بالهوش
لا جان هذا ابضميري لا ولا بالهوش
من حيث إذاني دعوهن من حجيهم طرش
لا خط لفاني ولا جدمي عليهم طرش
ياحيف نكَضي العمر ما بين وادم طرش
لو تلزم اذنه لزم لوبالعصى هوش