الشيخ محمد علي اليعقوبي
الشيخ محمد علي اليعقوبي
طرائف ومواقف
الحلقة الأولى
كريم مرزه الاسدي
خرّجت مدينة النجف الاشرف العديد من العباقرة والاعلام , ولكن الحكومات العراقية وكعادتها , لم تنصف العراق ورجاله , ولم تعرف قدر عباقرته وأثرهم على مسيرة الحضارة الانسانيه ورقيها.
في الحفل التأبيني الذي أقيم بمناسبة مرور اربعين يوماً على وفاة اليعقوبي , تفضل الدكتور عبد الهادي التازي سفيرالمملكة المغربية في بغداد عام(1965) بكلمة حملت بعض مضامينها : ستحمل شوارعنا بلا ريب اسم الشيخ اليعقوبي كما حملت من قبل اسماء لرجال العراق . ولا نعلم هل تم الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه ام لا , ومن الجدير ذكره , يضم ديوان اليعقوبي عشر قصائد عن فلسطين وحدها. ومثلها لأقطار المغرب العربي الثلاثة , ويعجبني من اليعقوبي هذا التضمين الرائع والبليغ لقول ( القاضي الجرجاني ) ,كما أعجب من قبلي الاستاذ الكبير جعفر الخليلي رحمه الله , وذلك أثر معارك ( الريف ) في المغرب , وشموخ عبد الكريم الخطابي ( الريفي ) , اذ تهجم شيخنا اليعقوبي على الفرنسيين والاسبان بسخرية لاذعة :
أتت زمرة الأسبان تترى وخلفها الفرنسيس في جيش ٍ على الريف حاشدِ
فيا دولتـي بغي حدا الظلم فيـهما الى حرب شـعب ٍ ماله من مسـاعـدِ
حنانا على الريف الضعيف فانّه من الظلم سعي إثنين في قتل واحـــدِ
يعتبر اليعقوبي من الطبقه الأولى من بين شعراء عصره ,إن أنصف الحكم - إذا أستثنينا الجواهري ,فهو حالة متميزة - لسهولة شعره الممتعة , وجزالة لفظه , وعذوبة نغمه , وقوة معانيه المبتكرة , وسرعة بديهته , ففي مقطوعة من قصيدة نظمها سنة 1344هج-1926م, , ونشرها في مجلة ( الفضيلة ) ,قال عن الشعر :
ما الشعر ,ما رقم اليراع منمقا فيه الصحائـــــف
فالشعر ما ترتاح عنــــــ ـــــد نشيده كل ّالعواطف
تصغي له الأسماع مـــن طرب ٍ, وتهتزّ المعاطف
الشعر ما تكسوه رقّــّــــ ـة لفظه أسنى المطارف
وحوت معانيه الحقـــــــا ئق والطرائف والظرائف
هذا شعره , وهذا منهج مسيرته الأدبية ,اما خطابته , فهو الخطيب المفوّه الذي يسحرك بنبراته الجياشة, وقصصه التاريخية الممتعة لما يريد أن يدلك عليه من تجارب الأولين , وأخبار الماضين بأسلوب جذاب, فتسمع ولاتمل , بل تستزيد , وشواهده الشعرية الممتعه والمكملة للمعنى الذي يريدك ان تذهب اليه فرضاً, وانت طائع مطيع ! , وكانت هذه شغلته ومهنته , وشغله الشاغل , ولم يقبل لها بديلا , لأن ببساطة على المنبر هو الآمر الناهي , وعلى الكرسي هو المأمور المنهي , وقد صرح بذلك صراحة , عندما أغرته السلطات بمنصب رفيع لاستمالته وإسكاته وسكوته عن النقد الفاضح , والتصريح الجارح قائلا :
أأرتاح بالكرسي مزدهيا به وتهتز ّ من شوق ٍالي ّ المنابر ؟
وأضرع مأمورا لناه ٍ وآمر ولي مقول ٌ في الشعب ناه ٍ وآمرٍ
رضيت لنفسي في الحياة بمقنعٍ ٍ من العيش يأباه خطيب ٌ وشاعر
ولم أدخر غير القناعة ثروة ً وتلك التي تبقى وتفنى الذخائر
اما بحوثه التاريخية .. فهو باحث قدير , ومحقق ثبت , وعلامة مقتدر , وأديب كبير . وكان الرجل الشيخ حسن المعشر , لطيف الدعابة , خفيف الروح , طيب القلب , بسيطاً مع البسطاء , عظيماً مع العظماء , هكذا عرفته جاراً لنا في محلة البراق , وهكذا عرفته خطيباً في مجالسنا , او عندما يقضي شطراً من ساعات المساء - أحياناً في ( براني بيت جدي ) , وهكذا عرفته وانا في شرخ الشباب عن بعد , وفهمته عند كهولتي بعد مماته عن قرب , انه رجل عملاق .. وهو الآن امامي بقامته المربوعة التي تميل الى القصر , وأكلتها سنوات العمر , ونظاراته بزجاجيتيها الشفافتين امام عينيه الصغيرتين الثاقبتين , تجلس معه ولا تود ان تفارقه , الزمن الطويل قصير بحضرته , والساعات تنقلب معه دقائقا , رحم الله شيخنا الجليل , ورحم الله تلك الايام ..
ولد شيخنا اليعقوبي في النجف الاشرف (1) في شهر رمضان المبارك سنة 1313 هـ / 1895 م واسمه محمد علي بن يعقوب بن جعفر بن ابراهيم النجفي (2) , كان والده فاضلاً أديباً شاعراً تخرج على يد السيد أبراهيم الطباطبائي النجفي الشاعر المشهور (3) , حمله والده معه في هجرته الى الحلة وهو صغير فنشأ فيها محاطاً برعايته , وقرأ القرآن الكريم على يد السيد سليمان وتوت (4) , ثم اخذ يختلف على دار السيد محمد القزويني , فرعاه واحسن رعايته , وشجعه على حفظ الشعر وفهمه (5) , ولازم الشيخ محمد حسن ابا المحاسن وتخرج عليه (6) وهاجر من الحلة الفيحاء 1333 هـ / 1913 فسكن قرية جناجة , ثم هاجر الى السماوة (7) , وأمتهن الخطابة ,وعندما سقطت بغداد 1916 م لجأ الى النجف (8) وبعدها انتقل الى الحيرة وكانت الحيرة تشتهر بأنتقائها الخطباء , فمكث بها الى 1923 م , وانتقل منها الى النجف , وفي سنة 1932 أسست جمعية الرابط الادبية وكان عميدها السيد عبد الوهاب الصافي ومن اعضائها المترجم له , وبعد فترة عُين الصافي قاضياً ,فانتخب اليعقوبي عميداً لها الى اخر حياته (9) , ومما يذكر ان السيد عبد الوهاب الصافي لما كان عميداً للجميعة , وكان يكثر من زيارة الشيخ محمد رضا الشبيبي , اذ كان وزيراً للمعارف ويرهقه بأطراء الرابطة ومشاريعها واعمالها حتى تضايق الشبيبي , فقال للصافي , انت مريض بذات الرابطة , فلما انتقل الصافي الى سلك القضاء , كتب شيخنا اليعقوبي الى السيد الصافي ممازحاً بعد ان اشتهر الصافي بـ ( ذات الرابطة ) :
ياصاحب الذات التي اعيا الورى منها شفاك ولات حيت شفاءِ
عوفيت منهـا وابتليت بغيرهـا من ذات رابطة لذات قضاءِ
والشيخ اليعقوبي على مايبدو ايضاً ابتلي هو الاخر بـ (ذات الرابطة ) , لان هذا الواجب الانساني يحتاج الى جهد جهيد , فكتب اليعقوبي , مرة ثانية للسيد الصافي قائلاً :
ياصاحب الذات التي علقت به طول الزمان
اشكر إلاهــك إنّه عافاك منها وابتلاني(10
بعد أفول نجم السيد صالح الحلي , بدأ نجم اليعقوبي بالصعود وهو يتلألأ, ويشيع اكثر يوماً بعد يوم (11) حتى أصبح سيد المنبر الحسيني , له اليد الطولى في توجيه الناس وارشادهم(12) وأشتهر في المدن العراقية الكبيرة , وصار لمنبره وزن كبير , ولشخصيته مكانة في النفوس , لما إمتاز به من غزارة العلم ,وجمال الأدب, ورقة الطبع , ونقاء السريرة (13) , ثم إنّ المرجع السيد ابا الحسن ( قدس) بالتزامه للشيخ اليعقوبي , ومساندته له ,وحضور بعض مجالسه, شجع الناس على الاحتفاء به ورفع ذكره. ومما يذكر الاستاذ جعفر الخليلي في ( هكذا عرفتهم ) : وقد رآه مرة السيد ابو الحسن يمشي في معيته وهو في طريقه الى الحرام الشريف متعثراً فسأله عن عصاه , وكانت لليعقوبي عصا هي دون الصفصاف ,الرخيصةالثمن , فقال اليعقوبي : لقد كسرت عصاي امس , فناوله السيد ابو الحسن عصاه وهي عصا من الأبنوس الثمين , فكان من أكبر رموز التقدير ان يدفع المرجع الروحي الكبير بعصاه التي يستعين بها الى احد في وسط ذلك الجمع الغفير , الذي اعتاد ان يحيط السيد أبا الحسن في اثناء سيره , فقبلها اليعقوبي شاكراً , ولم يسر بضع خطوات في الطريق حتى تقرب من السيد ابا الحسن , وانشده قائلا :
ابا حسنٍ ٍلا غرو أن ألقت العصا يدٌ منك أبصرنا مواهبهــا فيـضا
كأنك موسى والعصا عنده العصا وإنّ اليد البيضاء منك اليد البيضا (14)
وخلّف اليعقوبي عدة دواوين ومؤلفات منها ( الذخائر ) , وتتضمن حوالي خمسين قصيدة في مدح ورثاء أهل البيت طبعت سنة 1949 م ,وقدصدرها بالبيتين الآتيين , ولاتفوتك طبعا التورية في شطر البيت الثاني :
سرائر ودٍّ ٍّللنبيّ ّورهطــــــــــه بقلبي , ستبدو يوم تبلى السرائرُ
وعندي ممّا قلت فيهم (ذخائرٌ ) ستنفعني في يوم تفنى الذخائرُ
والمقصورة العلية قصيدة من (450) بيتاً في سيرة الامام علي (عليه السلام ) , طبعت سنة 1925 م , والرجل - والشيء بالشيء يذكر- بسبب عقيدته وبيئته و التزامه الديني , كثير التعلق بالإمام ( ع ) وزياراته الدورية لحضرته , وفي إحدى السنين شكا الشيخ ألماً حاداً أصاب عينه ورأسه ,منعه من زيارة 27 رجب المخصوصة لأمير المؤمنين (ليلة المحيا ) , والدنيا قامت قيامتها عنده , والسيد جواد شبر الخطيب كان يعوده ,فأنشده اليعقوبي متحسراً لعدم قدرته على الزيارة , ومعتذراً لإمامه , قائلاً :
أبا حسن ٍ عذراً , إذا كنت لم أطق زيارة مثواك الكريم مع النــــــــاس
فلولا أذى عيني ورأسي لساقني إليك الولا سعياً على العين والرأس
ومثل هذا الرجل الذي يُعتبرخادما لآل البيت قولاً وفعلاً , عنده الزيارة تعادل الدنيا وما فيها ,وقالها بصريح العبارة :
قالوا ترى الأيام قد أدبرت عنك , وزادت في تجنيها
فقلت :حبي لبني المصطفى خيرٌمن الدنيـــا وما فيها
وللشيخ ديوان شعر يتضمن القصائد الوجدانيه والوطنية والتاريخية طبع سنة 1928 م , و ( البابليات ) ثلاثة اجزاء طبع سنة 1952 م , وحقق الشيخ اليعقوبي عدة دواوين لشعراء , كاد يطويهم الزمان بعد ان جمع شعرهم ودققه وحققه , , كالشيخ صالح الكواز , والشيخ عباس الملا علي , ووالده الشيخ يعقوب الحاج جعفر , والشيخ عباس شكر , والشيخ محمد حسن ابي المحاسن (15) , توفي الشيخ اليعقوبي رحمه الله في النجف الاشرف فجر يوم الاحد 21 / جمادي الثانية سنة 1385 هـ - المصادف 17 / 10/1965 عن سبعين عام .
رحم الله اليعقوبي إنسانا وشاعرا وخطيبا ومؤرخا ومحققا .
..........................................................
1-يذكر الشيخ علي الخاقاني في ( شعر الغري ج9 ص 505 انه ولد بقرية ( جناجنة) عند آل مرزوق يوم هاجر والده من النجف الى اطراف الحلة. اما اغلب المصادر تجعل ولادته في النجف الاشرف . راجع ( نقباء البشر ) لاغا بزرك الطهراني . القسم الرابع ص 1560-1563 ( ادب الطف ) للسيد جواد شبر ج10 ص 194 ( فلسطين في شعر النجفي المعاصر ) د. محمد حسين الصغير ص203 .
نقباء البشر: المصدر السابق- 2
الامين : السيد محسن ( اعيان الشيعة ) م 10 ص 314-3
4 - نقباء البشر : المصدر السابق
لمصدر السابق : الخاقاني ج 9 ص 505 , ادب الطف , المصدر السابق - 5
6 - نقباء البشر : المصدر السابق
7 - شعراء الغري : ص 5 .
المصدر نفسه 8 .
نقباء البشر : المصدر السابق 9 .
مجلة الموسم العدد ( 109) 1991 م ص 607 نقلنا الرواية 10 .
الخليلي : جعفر ( هكذا عرفتهم ) ج2 ص146 11 .
شبر : جواد ( أدب الطف ) ج 10 ص 194 وما بعدها 12 .
نقباء البشر ( المصدر السابق 13 .
هكذا عرفتهم : ج2 ص 155 14 .
أدب الطف ج10 ص 194 15 .
كريم مرزة الاسدي
قالو عنه
قد وصفه الاستاذ توفيق الفكيكي في جريدة الهاتف مرة قائلاً : الاديب البارع , والشاعر المبدع المخترع , والمؤرخ الضليع المتتبع , والخطيب المصقع الذي يتصرف بالعقول والقلوب من فوق منبره , مملوء الإهاب بالفتوة , ذكي الفؤاد , مرهف الحسّ , قوي الذهن , سريع الخاطر, حاضر البديهية , ذو شاعرية فياضة دفاقة , وما فيه عيب إلاّ انّه حلو المذاق , وريحانة الندماء (1) , ويقول عنه السيد جواد شبر في ( أدب الطف ) : أديب خطيب وباحث كبير , علم من أعلام الأدب , وسند المنبر الحسيني , له اليد الطولى في توجيه الناس وإرشادهم , ولا زالت مواعظه حديثاً معطراً , لايكاد يملّه جليسه , فمن أشهى الأحاديث حديثه , وما جلس إلا وتجمع الناس حوله من الأدباء وأهل الذوق الأدبي يتوقعون نوادره وملحه , وأحاديثه الشهية (2) , ويقول الأستاذ جعفر الخليلي : اليعقوبي من أكثر الشعراء المعاصرين الذين يزخر شعرهم بالبديع من الجناس والتورية والأمثال والتضمين الذي يرسله عفو الخاطر دون تكلف ودون تعقيد (3) , ونعته العلامة الشهير والمحقق الكبير ( اغا بزرك الطهراني) (4) في كتابه ( نقباء البشر ) : خطيب شهير , وشاعر كبير , وباحث فاضل .. وقد سطع نجمه في مجال الأدب ونوادي الشعر , وذاع اسمه وبرز في الخطابة , واشتهر في المدن العراقية الكبيرة , وصار لمنبره وزن كبير, ولشخصيته مكانة في النفوس لما امتاز به من غزارة الفضل , ورقة الطبع ونقاء السريرة (5) , اما الشيخ علي الخاقاني بالرغم من تحفظه عليه نتيجة حزازات شخصية في قلبه عليه لا يتسع المجال لذكرها , قد شهد بأنّه خطيب شهير , وأديب معروف , وشاعر رقيق (6) ثم ذكره قائلاً : وهو إنسان مرح الروح , لطيف المعشر , رقيق الحديث مليح النكتة , قصاص بارع , وفكِه متين , متواضع ما وسعه التواضع (7) .
طرائفه ومواقفه الوطنية : الرجل وطني غيور على مصالح شعبه , وقضايا أمته , وشاعر ثائر , لا يخشى لومة لائم في قول الحق , واظهار الحقيقة , يتمتع بجرأة أدبية كبيرة ,وقدرة على نظم البيتين والثلاثة حيث تسير مسير الأمثال على ألسِنة العامة والخاصة , مما تسبب احراجا كبيراً للسلطات , وكان الأجدر بها أن تتقبل النقد ,وتصلح نفسها , وتتنبه الى أخطائها , وتقوم المعوج .
اثناء الحرب العالمية الاولى , عندما كانت المانيا تحارب الى جانب الدولة العثمانية , دول الحلفاء , كان الألمان يركزون قسطاً كبيراً من دعايتهم حول منطاد ( زيبلن ) ,وهو منطاد ضخم جداً يحلق عاليا في السماء وترسله المانيا لقصف لندن وباريس , وتدعي انه يَحدث دماراً كبيراً لعظمته , ومن طريف ما يذكر في هذا الصدد أن الشيخ اليعقوبي نظم قصيدة اثناء حصار الكوت , أشار فيها الى منطاد زيبلين , ومبلغ التدمير الذي أحدثه في لندن , وهذه بعض أبيات منها :
لله جيش المسلميـــن المنعـــوتَ كلّ حجي قد عـــــاد منه مبهــوتَ
صال على انكلترا وهي الحوت ولم يزل يطردها حتى الكــوتَ
من بعد ما جاست خلال سلمـان قد عزّ يا انكلتـــــرا مـــــا تبغيـــن
وراءك اليوم عن المــعصومين ليس الـعراق مثلـما تظنيـــــن
فلندن حــــام عليها زبــــــلين يقذفها قنــــــــابلاًً ً ونيـــــــران (9)
وثار الشيخ اليعقوبي على طلب تركيا بالحاق الموصل الحدباء الى أراضيها في مؤتمر لوزان الشهير سنة 1923 م , بأعتبار إن الموصل كانت خارج النفوذ البريطاني عند اعلان الهدنة عام ( 1917) , واستمرت المشكلة فترة من الزمن واعتبر اليعقوبي ,إن الموصل رأس العراق , ولا يمكن ان يعيش بدونه , فقال مخاطباً المجلس التأسيسيي :
ياايها الـــنواب صونو شعبكم بالاتـــحاد وبالحجى والبـــاسِِ ِ
الموصل الحدباء رأس بلادكم والجسم يفنى بعد قطع الرأسِ (10)
وعندما اصطدم العراق بالجيش الانكليزي عام 1941, أبان الحرب العالمية الثانية , نظم اليعقوبي قصيدته اليائية التي انشدها في دار الرابطة الادبية في النجف ومطلعها :
بالشعب قد عاثت يد عادية فجددوها نهضة ثانية (11)
ومنها البيت :
جاءت لتحميك على زعمها ولندن ليس بها حامية
قد نشرتها أمهات الصحف العربية , واذيعت من أغلب المحطات العربية حتى لقد كان المستر (بيرون) الذي كان رئيساً للعلاقات البريطانية ,كلما رأى أديباً قائلاً اختصر: ( ولندن ليس بها حامية ) , ثم يسأل على سبيل المزاح والتهكم كيف صحة اليعقوبي ؟! (12) وعلى مايبدو ان اليعقوبي ( رحمه الله ) , قد خاب امله في اواخر ايامه , واعتصر قلبه الالم لما وصلت اليه الاوضاع السياسية من عدم انسجام وطني يلم شعث الشعب , فسمعت منه قصيدة في احدى المناسبات اتذكر منها هذا البيت وهو الشاهد :
سل ثورة العشرين أين رجالها فجهادها وجهودها ذهبت سدى !!
وعلامات التعجب لكاتب هذه السطور , وله بيتان آخران من ضمن قصيدة ألقاها في جامع الهندي في النجف بمناسبة ذكرى ميلاد الامام الحسين (ع )سنة 1964 ,قبل وفاته بسنة ,وكان العراق حينها يمرّفي ظروف بالغة الخطورة والصعوبة , والصرعات السياسية وصلت الى درجة لا يمكن السكوت عنها ,فقد سخط على الأحزاب السائدة , وهذا رأيه ,وعلى أغلب الظن ,كان يمثل وجهة نظر المرجعية ,يقول فيهما:
يا قوم : ما الأحزاب غير سحابة ٍ جوفاء ترعد في السماء وتبرق
طورا بهم فهدٌ يســـــود وتارةً يتزعم القطـــــرين فيهم عفلق
ونقول لو أدرك شيخنا هذا الزمان ماترى سيقول ؟! على كل حال يحفظ الجيل المعاصر للشيخ اليعقوبي كثير من نتفه السياسية , ونحفظ معه هذه النتف , وارتأينا ان نذكر بعضها ونرجئ الاخرى للحلقة الثالثة فمنها :
قد اصبح الوطن المسكين بينهم حباله نصبت في كف صيادِ
بغداد قد جُبيت للغرب ثروتــها والشعب ثروته تَجبى لبغـداد
ولمّا تولّى ياسين الهاشمي رئاسة الوزراء , وأخوه طه رئاسة أركان الجيش , ضربهما دفعة واحدة ,ولا أعتقد ستفوتك التورية في البيت الثاني عن سورتي ( طه ) و (ياسين ):
قالوا وزارتكــــــــــم ياسين يرأسها ويرأس الجيش طه في الميادين ِ
يا ربّ ( طه ) و( ياسين ٍ) بحقّهما خلّص عبادك من طه وياسينِ
واحفظ له بيتين من بحر الوافر - من بعض ما أحفظ له منذ مطلع الستينات - يعبران أجمل تعبير عن ضرر الفساد الأداري للمجتمع ,وكيانه الأقتصادي,وبعده الأخلاقي:
آلا قل للوزارة وهي تبغي مكافحة الجراد عن البــــلادِ
فهلا كافحت في الحكم قوماً أضرّ على البلاد من الجرادِ
ولما شكّلت وزارة ( أرشد العمري ) , قد تناولها بداية بالاستهزاء من التقلبات السريعة, ولم يكن يحمل ضغينة على العمري ,بل لم يكن يعرفه أصلاً , فالسخرية عامة :
قالو الوزارة شكلــــــــــــت بــرئاسة العمري ارشدْ
فاستقبـــــــــل الشعب الوزا رة بالصلاة على محمدْ
ومن سخرياته اللاذعة , وصوره للمفارقات البارعة ,عندما أدّى الرئيس العراقي عبد السلام عارف العمرة ,وعاد الى العراق , سرعان ما شدّ الرحال ليزور موسكو ,ويضع أكليلاً من الزهور على قبر لينين , خاطبه الشاعر قائلاً :
بالأمس كنت ببيت الله مــــعتمرا ً ترمي الجمار على مآوى الشياطين ِ
واليوم ترمي أكاليل الزهور على ضريح قبر ٍ بنوه فـــــــــــوق لينين ِ
لا أخالك تختلف معي أن الصورة مضحكة ,والمفارقة ملفتة , والشيخ كان يعرف العرف الدبلوماسي , والوضع الرسمي ,ولكن التوقيت الغريب , للرئيس العجيب ! جلب هذا الشعر المصيب , لأعين الرقيب !
سنكتفي بهذا القدر , لندخل في الحلقة القادمة الى المجلس النيابي ووصفه , و طرائفه الأجتماعية وظرفه, والله الموفق لكل خير.
....................................
-هكذا عرفتهم / جعفر الخليلي ج2 ص147 1
جواد شبر ( ادب الطف ) ج10 ص194 وما بعدها - 2
3 - هكذا عرفتهم / المصدر السابق / ص157
4 -اتذكر الكلمة التابينية للشيخ اغا بزرك الطهراني ( قدس) قد بداها( وتقدرون فتضحك الاقدار) ثم اردفت الكلمة التي القيت نيابة عنه ما معناه : كنا قد ذخرنا الشيخ اليعقوبي لرثائنا , واذا بنا نرثيه .
5 -نقباء البشر /القسم الرابع /ص1560 - ص 1563 للشيخ اغا برزك الطهراني
6 - الخاقاني : علي / شعراء الغري / ج9 ص 505
المصدر نفسه ص 506 - 7
...) طثانية 1984 ص203 8 - الصغير :محمد حسين (فلسطين
9- الوردي: د.علي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) ج4 ص22
10.- مجلة الموسم العدد 9-10 - 1991 ص18-19
11- ادب الطف: ج10 ص196
12- هكذا عرفتهم: ج2 ص156
13- الموسوي: عبد الصاحب, حركة الشعر في النجف الاشرف ص429