الملا عطية الجمري
الملا عطية الجمري
هو الخطيب الشاعر الملا عطية بن علي بن عبد الرسول بن محمد بن حسين بن إبراهيم بن مكي بن الشيخ سليمان البحراني الجمري، نسبة إلى قرية بني جمرة، و هي قرية كبيرة تقع في القرن الغربي الشمالي من مملكة البحرين، و هي مسكن معظم أبناء هذه الأسرة، و د عرفت هذه الأسرة العريقة في السابق بآل الشيخ سليمان ثم بآل محمد، ثم انشطرت شطرين يعرف أحدهما بآل عبد الرسول و الآخر بآل إبراهيم، و لهذه الأسرة تاريخ علمي و خطابي مشرق.
و ينتمي أهالي قرية بني جمرة إلى (البحارنة) الذين قطنوا البحرين قبل الإسلام بسنين عديدة و تنحدر أصولهم من اليمن، و لا تزال قبيلة (جمرة) معروفة في اليمن حتى يومنا هذا، و قد هاجر بعض أفرادها ضمن الهجرات اليمنية إلى شمال الجزيرة العربية ثم ارتحل بعضهم إلى البحرين و أقاموا في المنطقة المسماة الآن ببني جمرة.
كما ارتحل آخرون إلى العراق و ما زالوا فيها، و بعض آخر إلى لبنان و ما زال أثرهم فيها في قرية (إهدن) النصرانية، و منهم مؤلف كبير قد عاش قبل مائتين إلى ثلاثمائة سنة اسمه (سركيس الجمري)، له مؤلفات باليونانية كتب عليها اسمه باليونانية (جماريوس).
و أتذكر أن فضيلة العلامة الشيخ علي الكوراني حدثني في قم المقدسة ببيته قبل سنوات أنه احتاج إلى عملية أثناء دراسته في النجف الأشرف فسافر إلى بيروت لإجرائها و قد فاجأه أن الدكتور القائم على العملية مسيحي و شهرته (جمرة)، فانقدح في ذهنه اسم قرية بني جمرة التي زارها و التقى فيها بشاعرنا الراحل، فسأل الدكتور عن هذه الشهرة فقال: نعم، إن أصلونا من قرية من قرى البحرين اسمها (بني جمرة)، و أصلنا مسلمون شيعة و قد تنصرنا بحكم الهجرة و الاختلاط. ثم يعقب الشيخ الكوراني فيقول: فلو قصدهم رجل دين جمري من البحرين لكان له بالغ الأثر في إرجاعهم إلى أصولهم المسلمة فهم لا يزالون على اعتزازهم بنسبتهم للبحرين.
و مما يُعرف عن أهالي قرية بني جمرة –في البحرين- امتهانهم –قديماً- الزراعة و النسيج و صيد الأسماك و اللؤلؤ.
و كيف كان، فقد ولد شاعرنا المترجم في القرية المذكورة في حجرة متواضعة في بيت أبيه مع أعمامه، و ذلك في جمادى الأولى من عام 1317هـ، و له في تاريخ مولده أبيات اقتطفناها من مذكراته، و هي:
ولادتي في ليلة سعيدة زهــيه شرَّفت الكون بها فاطمة الــــزكية
فيالها من ليلة نلت بها الأمـنية فيها دعا التأريخ ((عش بالخير يا عطية))
وصف شاعرنا بنحافة الجسم و بالربعة طولاً، و عرف بحسن الخلف و الكرم و التواضع و كثرة التبسم لجليسه و حدة الذهن و قوة البديهة و سرعة التأثر و كثرة الوقار و حب الفكاهة، و عشق الأدب و كثرة الطموح و صلة الرحم و قضاء حاجة الإخوان و صلابته على كبر السن و اعتماده على نفسه، و لا يعدم مجالسه النصيحة و الحكمة و الطرفة.
نشأته:
تزدحم الأحاديث عن فصول تلك المراحل الأولى التي مر بها شاعرنا الراحل في طور نشأته، و سيبدو أمام القارئ الكريم تعددية شاعرنا و تخضرمه بين تلك المراحل المختلفة، و سيعرف أنها ليست مجرد نشأة بل هي تاريخ أمة و شهادة على المعاناة التي كان يعانيها أهل الطموح و التحرر في زمن شح العلم و قلته، و فصل مهم من فصول تأريخ التعليم في البحرين و الخليج.
و تنقسم نشأته إلى مراحل متعددة المشارب، إذ كانت مسقط رأسه (بني جمرة) –المتقدمة الذكر- مشتهرة بصناعة (النسيج)، و كانت منتجاتها من العبي و البشوت و الأشرعة ة غيرها مطلوبة في سائر بلاد الخليج، الأمر الذي حفز أقطاب القرية بالنهوض بتجارتهم الغامرة في سوق المنامة و هي أهم أسواق الخليج في تلك الفترة الزمنية.
و قد برز بيت تجار هذه القرية واحد من كبار تجار المنامة عاصمة البحرين في حينها و هو والد شاعرنا الحاج علي بن عبد الرسول الذي أُطلق عليه فيما بعد لقب (زاير علي)، و كذلك برز معه في هذا المضمار إخوته (أي أعمام الملا عطية) فخيمت الأجواء التجارية على هذه الأسرة، و راح شاعرنا منهمكاً في مشاغل أبيه في سنين طفولته.
و بالرغم من أن تلك المرحلة كانت مزدحمة جداً بألوان كثيرة من أنواع التجارة إلا أن شيئاً منها لم يكن ليملأ طموح شاعرنا، إذ لم يكن الوضع التجاري الجيد محل نظره الواسع، بل كانت تجتذبه أجواء هائلة من التنافس و التسابق في مضمار التحصيل العلمي و الأدبي، سيما و قد برزت في نفس هذه القرية أقطاب علمية و أدبية لفتت نظر شاعرنا، حيث كانت قريته عامرة بالخطباء و الشعراء و طلاب العلوم الدينية منذ القدم، فساعد ذلك –و كذلك وعي والده تاجر الأقمشة- في صياغة شخصيته و إشباع رغباته الفكرية و الأدبية، و كان لوالده الأثر الكبير في نشأته الطيبة، و هذا ما يظهر من مذكراته التي خلفها بخط يده.
فحين بلغ شاعرنا سبعاً من السنين و على وجه التحديد في عام 1324هـ بعثه والده رحمه الله تعالى للمعلم <و تطلق عبارة المعلم في الخليج على المتفرغ لتعليم القرآن كما هو معهود>، و كان المعلم الذي بدأ عنده شاعرنا دروسه في حفظ القرآن هو الملا سلمان بن علي بن فتيل، و كان المعلم المذكور من المشتغلين بصناعة العبي (البشوت) و لا شك أنه كان يجمع بين مهمتين شاقتين في آن، فالنساج هو نفسه المعلم، و المعلم هو نفسه النساج، و هذه صورة مصغرة عن الوضع آنذاك، فالمدرس مشغول بالكد و التعب لتحصيل لقمة عياله ما يؤدي إلى صعوبة التحصيل أو تطور التعليم في ذلك الوقت.
يقول شاعرنا عن تلك الفترة:
و لقلة الاعتناء لم أتحصل إلا على الضرب من الوالد و المعلم، و قد مكثت سنة كاملة. و بعد عام من المعانة بين الطموح في ختم القرآن بمهارة و عدم تفرغ المعلم المختص قرر شاعرنا أن يلتحق بمكان آخر: و في عام 1325 تحولت إلى مؤمنة تسمى المسباحية –نسبة إلى أسرة في بني جمرة تعرف بآل مسباح- و لحسن العناية لم أمكث إلا ستة أشهر و حفظت القرآن.
ثم ينتقل بعد ذلك من هذه المرحلة إلى مرحلة مهمة أخرى و هي الكتابة و القراءة، و تجدر الإشارة هاهنا إلى أن الكتابة و القراءة منتهى ثقافة الإنسان الخليجي آنذاك، باستثناء عدة معدودة من رجال الدين الذين استطاعوا أن يهاجروا إلى العراق لطلب العلم.
و قد تعلم شاعرنا الملا عطية الجمري القراءة و الكتاب بين يدي الشيخ محسن بن الشيخ عبد الله بن الشيخ أحمد العرب، والد الخطيب و أديب الشيخ محمد جعفر العرب، و كان الشيخ محسن من رواد منبر الحسين عليه السلام، لذا يرجح أن يكون العرب هذا هو الشخصية التي تأثر بها شاعرنا الخطيب فتولدت لديه الطموحات الكبيرة التي سعى لأجلها و من ثم استطاع أن يحقق قدراً كبيراً منها، و لا أقول كلها، لأنه لم يزل حتى رحيله غير مكتفٍ بما حقق من إنجازات عظيمة.
و لقد دأب (زاير علي) والد خطيبنا رحمه الله على تعليم ابنه و صقل مواهبه منذ الصغر، و لما كان شاعرنا يتمتع بجمال الصوت فقد اشترى له والده مجموعة من قصائد المرحوم الشيخ عبد الله العرب، و ألزمه بقراءتها و حفظها، و حثه على مواصلة تلقي العلوم الدينية على أيدي العلماء في تلك البلاد، علاوة على رغبته القوية في ممارسة الخطابة و قول الشعر، فكانت مجموعة من الحوافز صنعت منه الخطيب اللامع و أهلته أن يرقى المنابر و هو في سن مبكرة، حتى أصبح اسم الملا عطية من الأسماء البارزة في مضمار الخطابة.
و كيف كان، فبتعلم شاعرنا القراءة و الكتابة أصبح بيده السلاح الذي يخترق به الصعاب، و أصبح قادراً على قراءة القصص التاريخية التي يقوم بإعدادها أفراد معدودون و متميزون في مجتمعهم، و أصبح قادراً على قراءة الشعر أيضاً؛ غير أن أباه التاجر كان بأمس الحاجة إليه –و هكذا كل تاجر آنذاك يحتاج إلى كاتب (كراني) يعينه على عمله –إذ كان يملك متجرين مملوءين من الأقمشة، و كان لكثرة عملائه يفتقر إلى كاتب حاذق أمين يكتب له الديون و غير ذلك، و لم يكن أمام والده أذكى أو أمهر أو أأمن من ولده الأكبر عطية، فاصطحبه معه إلى السوق فصار ذراعه الأيمن و موضع سره، فانشغل بتجارة أبيه عن مواصلة تقرير مصيره الذي كان يحلم به، و مع ذلك فقد تمسك بمهنة والده براً و طاعة لأبيه، و قد لاقى خطيبنا الأمرين بسبب عمله هذا، فكان في كل يوم يحمل (الخرج) و (الجاعد) و ينطلق من بني جمرة إلى المنامة حيث دكان أبيه على ظهر حمار قد اشتراه له والده.
يقول رحمه الله في هذا الشأن:
و اشترى لي والدي حماره اركبها وحدي و طالما ألقتني، و في مرة من المرات تجرح وجهي و حملت الخرج و الجاعد على كتفي و الدم يجري من جبيني إلى بيت جدي حسين بن إبراهيم و فيه ولده إبراهيم فقط.
و كان يتنقل مع والدها حسب ظروف التجارة آنذاك، من سوق المنامة إلى سوق الخميس –المنعقدة بالقرب من المسجد التاريخي القديم الذي بني في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز- إلى سوق الاثنين، و لم تتوقف المعاناة على ذلك، بل كان والده يذهب في كل عام مرة أو مرتين إلى خرمشهر يمارس التجارة فيها مع تاجر من تجارها و هو علي بن محمد مسيمير، و كان هو كذلك يأتي إلى البحرين لنفس الغرض، و قد ذكره شاعرنا في مذكراته بين عام 1321هـ و عام 1322هـ.
و هكذا بدت لنا السنوات الأولى لحياة شاعرنا أبي يوسف في وطنه البحرين التي تعكس شدة معاناته و صبره على احتمال صعاب الحياة آنذاك، و منها نحلق إلى دار هجرته.
قصة الهجرة:
ارتبطت أحداث هجرة شاعرنا بانكسار السوق التجارية في المنامة و إفلاس الكثير من كبار تجارها بما فيهم الحاج علي بن عبد الرسول والد المترجم و كان ذلك في عام 1327هـ، إلا أن مشاهد هذه الهجرة الطويلة تضرب بجذورها إلى أيام الجد (عبد الرسول)، فقد كان الأخير تاجراً كبيراً بالأقمشة و النسيج و له مكان معروف في المنامة، و كان يتاجر بالبضائع الهندية من خلال التجار الهنود المتواجدين آنذاك في البحرين، و بعد وفاة عبد الرسول قام أبناؤه الأربعة بتجارة أبيهم، و هم –بدءاً من الأكبر- (محسن و محمد و سلمان و أخيراً علي –والد شاعرنا و أصغر الأخوة-).
غير أن الأخوة الأربعة لم تنجح تجارتهم في مطلق القرن العشرين، و قد تراكمت عليهم ديون تجارية لأحد التجار الهنود، إلا أن هذا الأخير قام بتسوية الأمور ودياً نظراً لمعرفته بعبد الرسول و أبنائه و علاقته الجيدة معهم.
بيد أن ديوناً صغيرة أخرى قد تجمعت على أبناء عبد الرسول لبعض تجار الهند من غير المسلمين، و كانوا قادرين على سدادها مع مرور الوقت فيما لو أتيحت لهم الفرصة <كانت البضاعة المخزنة تفوق قيمة الديون بكثير إلا أنهم لم يُعطوا الوقت الكافي للسداد، و قد كسر المحل بعد ذلك و بيع بعض ما فيه من البضاعة بأرخص الأثمان و سددت الديون لأصحابها، و كان هناك فاضل كثير على الديون>، و من هذه الديون التي ركبتهم ما يُقدر بمائتي روبية هندية لأحد أولئك التجار، فلما علم هذا الأخير بانكسارهم بادر برفع شكوى على أبناء عبد الرسول لدى حاكم المنطقة، و كان ذلك في عام 1909م، و كانت النزاعات حينها تسوى بالهمجية و القوة بعيداً عن العدالة و مراعاة الكرامة <كانوا يقبضون على الشخص بالقوة و يلقونه في مخازن وسط سوق المنامة (مقابل القلعة اليوم)، و كانت هذه المخازن أشبه بالدكاكين، و كانوا يضعون رجلي السجين في خشبة تُغلق على ساقي السجين بحيث لا يمكن أن تخرج منها القدم، و قد يُحدث السجين في مكانه في كثير من الأحيان إذا لم يسمح السجان بفتح قيده لقضاء الحاجة (عن لسان ملا إبراهيم شقيق المرحوم)>.
فبينما كان أبناء عبد الرسول نائمين إذ هجمت عليهم مجموعة من (الفداوية) في منتصف الليل و دمرت محتويات منازلهم و صادرت ما وقعت عليه أيديهم و اعتقلت محمد بن عبد الرسول (جد فضيلة الشيخ عبد الأمير الجمري) ثم بدأت بمطاردة علي بن عبد الرسول، إلا أن علياً نجا من أيديهم حين أخذ أسرته و هاجر إلى المحمرة المسماة (خرمشهر) أو عربستان، و كانوا أربعة أشخاص، و هم: ملا عطية -10 سنين- و أخوه حسن -7 سنين <و هو أصغر من شاعرنا بحوالي السنتين أو الثلاث، و قد مات بعد ذلك شاباً. و قد ولد للحاج علي في أرض القطعة من البصرة ولدان أيضاً، و هما (حسين) و (ملا إبراهيم) و بينهما ثلاث سنوات>- و والده و والدته.
و اصطحب شاعرنا معه في هذه الرحلة أعز مقتنياته و هو الكتاب الذي يعتمد عليه في محفوظاته، و هو الذي اشتراه له والده من الشيخ عبد الله العرب و فيه مجموعة من الأشعار و المشاهد. و هذه فقرة من مذكرات المرحوم:
و في عام 1327هـ ضعفت التجارة و انكسر تجار كثيرون منهم الوالد و الطريق مفتوح لكل مكان و كل أحد بدون رخصة أو جواز، فسافر إلى المحمرة بالعائلة أجمع و ترك الدكانين مغلقة على ما فيها. كان السفر بالباخرة، هو و والدتي و أنا و أخي حسن رحمه الله ليس علينا نول. بعد شهر رمضان من السنة المذكورة كان ورودنا المحمرة، و كان الوالد اشترى لي مجموعاً من المرحوم الشيخ عبد الله العرب بعشر روبيات و الزمني أن أقرأ، و حفظت منه تسع قصائد قصار و بعض الشعر باللغة الدارجة، و كان صوتي جميلاً.
في المحمرة:
في دار الغربة بدأت مرحلة ثاني من نشأة شاعرنا الراحل، حيث شاء الله سبحانه أن تكون شخصيته مخضرمة بين حضارتين عريقتين عندما انصهرت شخصيته البحرانية انصهاراً عجيباً بشط العرب و حضارة أهله العملية –على ضفتيه العراقية و الإيرانية-، و ربما تكون قد آزرته الظروف هذه المرة فألقته على ضالته ليحقق بعض طموحاته في ذلك الزمان المليء بالمعاناة التي لا يستطيع الكاتب وصفها.
ففي المحمرة كانت بداية انطلاقته في مضمار خدمة سيد الشهداء (عليه السلام)، سيما أنها كانت زاخرة بالعلماء و الأدباء و الخطباء، فانخرط في مجال الخدمة الحسينية بغية أن يجد فيها نفسه، و تدرج تدرجاً سريعاً، منتهلاً من منهل صافٍ رقراق عذب، يجمع العلم و الخبرة إلى علمه و خبرته، حتى استقر به المقام في المحمرة عشر سنين، و كانت الفيوضات الربانية و التسديدات الحسينية تلازمه في مشواره الطويل، و قد ظهرت آثار ذلك فيما بعد بما سنأتي على ذكره في ثنايا كلامنا.
و هناك أيضاً شارك شاعرنا في أهم المناسبات الموسمية عند الشيعة على الإطلاق، و هو شهر المحرم، حيث يقيم فيه الشيعة شعائرهم المعبرة عن قوة ارتباطهم بأهل البيت عليهم السلام، و قد أصبح شاعرنا فور وصولهم إلى المحمرة خطيباً في حسينية الفرساني <و تجدر الإشارة إلى أن الفرساني نسبة لقرية في البحرين اسمها الفارسية، و قد انقرضت هذه القرية جراء أحداث مرت بالمنطقة و تفرق أهلها في القرى الأخرى و بعضهم ذهب إلى المحمرة و غيرها> في شهر المحرم، و كان ذلك في عام 1328هـ، إذ كانت هجرتهم في أواخر عام 1327هـ و كان ذلك في شهر رمضان المبارك، و كان يطلق عليه حينها اسم (صانع) و هو الاسم الذي يطلق على مساعد الخطيب المستقل، و هو المصطلح المتعارف عليه في العراق و خوزستان و بلاد الخليج، و كان خطيب الحسينية المذكورة يُقال له (الملا جلو) و هو من مشاهير خطباء تلك المنطقة. و هذه فقرة مما جاء في مذكراته:
في سنة 1328هـ كانت قراءتي في حسينية الفرساني بالمحمرة و قاريهم ملا جلو، و أخطأت مرة و انتهرني و اعتذر عني والدي.
بعد ذلك التحق شاعرنا بخطيب آخر في المحمرة يدعى (الملا عبد الرحيم) و كان تاجراً، فعمل معه في نقل الأخشاب التي يستوردها الخطيب المذكور عبر شط العرب من خارج البلاد، فكان ينقلها مع عامل آخر من (البَلَمْ) –أي المركب- إلى بيت الملا عبد الرحيم، و كان بيته في خارج مدينة المحمرة من الشمال بالقرب من البساتين. و كان يقرأ معه المجالس الأسبوعية، ثم قرأ معه في العشرة من المحرم، و كان شاعرنا يدعوه (أستاذي)، و يبدو أن كان كثير الثناء و الشكر و التقدير للملا عبد الرحيم، كما كان كثير الامتنان للجمريين الشيخ عبد الله العرب و نجله الشيخ محسن. و إليك بعض ما جاء في مذكراته عن هذه الفترة:
و بعد رمضان الثاني ألحقني بملا أسمه الملا عبد الرحيم و كان بقالي بالمحمرة، فكنت دواماً جالساً على كرسي في الدكان أو بالباب، و كنت أخدم نسيبه –خال أولاده-، و تأتيه أبلام فيها حطب وَقِيد من الخارج، فكنا نحمله من البَلم على رؤوسنا نوصله إلى بيتهم و كان خارج المحمرة من الشمال عند البساتين.
و كنت أقرأ معه في العوايد، و قد كان القراء في المحمرة كلهم عراقيين ما عدى ملا أحمد بن رمل و سيد مكي و ملا جاسم الشماسي.. أما أستاذي فقد أقمت معه و كان يقرأ في المحرم في الدورة من نواحي العراق الجنوبية قرب الفاو، و مضيت معه فما رجعت من الدورة إلا والدي قد تحول إلى (القطعة) من ناحية العراق بتزيين من الجمارة و فيهم عمي ملا محمد –جد يوسف ابني-، و ذلك أول عام 1329هـ.
في البصرة و نواحيها:
بعد سنتين من العناء المرير في المحمرة قرر والده الانتقال إلى العراق، و ذلك لكثرة المهاجرين الجمريين إلى نواحيها، فنزل بالعائلة الكريمة بقرية على ضفاف شط العرب تسمى (قطعة الشيخ) و يطلق عليها (القطعة)، يقول رحمه الله:
و المحلة تعرف بالجبل من القطعة المذكورة، و هناك معلم بحراني يعلم الأطفال القراءة و الكتابة يسمى ملا حسين، تعلم لديه الملا إبراهيم خال يوسف و أخي حسن رحمهما الله.
و كانت (القطعة) إلى زمن قريب مأهولة بمجموعة كبيرة من أهالي قرية بني جمرة و كان الملا عطية يتردد عليها كثيراً، و قد حدثني الخطيب الفاضل الشيخ عبد المحسن نجل شاعرنا أنه رآها و مرح فيها أيام صغره مع بعض إخوته، إلا أنها دمرت الآن بسبب الحرب العراقية الإيرانية و نزح أهلها عنها بما فيهم الجمريون، و هم اليوم بالبصرة، و لكن أصولهم الجمرية ثابتة، و مواقع بيوتهم في قرية بني جمرة لا تزال أراضي فارغة واقعة في وسط قرية بني جمرة قرب المأتم المعروف بـ(مأتم الغرب).
و على أي حال، فقد كان استقرار شاعرنا في القطعة عام 1329هـ، و فيها بدأت انطلاقته الجديدة، فبدأ حياة الاستقلال بعد شوط من التبعية لغرض التدرب و اكتساب الفن و القدرة و المهارة الخطابية حين أحيا شعائر عاشوراء المحرم في منطقة يطلق عليها (شلهة المطور) في قطعة الشيخ.. يقول:
في سنة 1330هـ استأجرت محرم في شلهة المطور بالقطعة، و المأتم كَبَر في بيت حاج اخميس، و له ولد جليل يسمى عساف، و معي قاري ضعيف أجرته مائتا قراناً، و أنا أجرتي خمسون.
شط كارون حتى القُصبة:
في عام 1332هـ سافر أبو يوسف مع والده إلى منطقة (نهر كارون <أطلق عليها شاعرنا في مذكراته أسم (شط كارون)>) و قرأ هناك، و كانوا حينها يدفعون الأجرة للخطيب حنطة عوضاً عن المال، فكانت أجرته ثمانية أكياس من الحنطة. و كان هذا العام من أشد مراحل حياته عليه عناءً و أكثرها خطورة، فقد دقت فيها طبول الحرب و ازدحمت مياه شط العرب بالبوارج العسكرية البريطانية، و أصبح جميع المواطنين هناك مقابل خيارين مريرين قاسيين، فهم بين أن يقوضوا بجميع ممتلكاتهم و مؤنهم إلى الضفة الأخرى من شط العرب و ينتشروا في القرى و المدن بعيداً عن الحرب ليتركوا بيوت الطين تتحول إلى رماد و عرشانهم إلى دخان، أو أن يواجهوا الموت القادم المحتم. هكذا يفهم من مذكرات شاعرنا الراحل، و التي ذكر فيها هذا المشهد بغاية من الاختصار فقال:
و فيها كان دخول الجيش البريطاني شط العرب بالمناور و المراكب، و كان ذلك في أول ذي الحجة <أول ذي الحجة من السنة المذكورة يوافق 20/10/1914م>، و نزحنا –جميع أهل الناحية الغربية- إلى جهة إيران ليلاً، و لم يمنعونا في ذلك و لم يعارضنا أحد؛ و ما انفجر الفجر من تلك الليلة إلا و ليس هناك ديار إلا أفراد لهم أثقال حُملت بيتوا عليها، منهم عمي زاير محمد بن سلمان، و قد جيء بالسفن قبل الواقعة بيوم و قبل الفجر بساعة، و اشتبك القتال إلى الضحى، و انهزم جيش الأتراك، و دخلت المراكب الشط في المطوعة. و في هذه السنة أحداث و أمراض كوليرا و غيرها.
ثم أقاموا في جزيرة صلبوخ المعروفة اليوم بجزيرة مينو ثمانية أشهر، و لم تعقد مجالس عاشوراء في تلك السنة، و قد تحدث شاعرنا هاهنا عن بعض المعاناة التي ألمّت بهم فقال:
و فيها اتصلت بالقصبة أنا و المرحوم أخي حسن، مضيناً مشياَ و بتنا ليلةً في الطريق و وصلنا الضحى في اليوم الثاني نُهران <جمع نهر> القصبة وجدنا الماء مالحاً، و لم نعرف أحد، و قمنا نشرب الماء المالح و لم نفرق من شدة العطش و سبب لنا ذلك إسهالاً حاداً في الطريق، و قد وصلنا السيحة في بيت الحاج عبد الرضا بحشاشة أنفسنا.
ثم يجسم المرحوم لنا حجم البلاء الذي ألم بالناس، و على الأخص أولئك المهاجرين من البحرين لسوء الظروف و الأحوال، و يصور أمر التجارب و أقساها، مما يثير الدهشة و التعجب في الخاطر، فكيف يكون أمير الخطباء الشاعر المجدد و فارس مضمار الخدمة الحسينية الناجح وليد ذلك الزمن المتصحر المليء بالتخلف، فالخطيب حينها لا يملك من الوعي إلا النزر اليسير القليل، و قد بدا في تلك المنطقة من أطراف شط العرب إلى الخليج إفلاس المنبر و احتياجه إلى بعث الروح فيه.
فبرز حينها فارس المنبر الخطيب الشهير الملا أحمد بن رمل مفتتحاً مضمار السبق فيه، فكان مجدداً خطيراً في هذا الحقل، و يبدو أن شاعرنا المرحوم ابتدأ في التجديد من حيث انتهى الملا أحمد بن رمل، و على الرغم من أن الملا أحمد كان يكبر الملا عطية بفترة ليست باليسيرة إلى درجة التغاير التقريبي في الجيل إلا أنها كانا زميلين متحابين حباً لا نظير له، و قد سمع من الملا ابن رمل قوله بلهجته المحمرية بتفخيم اللام (قلبي عطية).
فما أعظم الإنسان المبدع حين يتحدى الصعاب و يغالب الظروف فيغلبها و يتحرر منها، فقد شق هؤلاء الصعاب و قفزوا عليها، و امتطوا الصعبة فطوعوها، حتى قرروا مصيراً مرضياً، لم تتح لهم فرص العلم و سبله التي هي بين أيدينا اليوم من توفر الكتب و ازدهار المكتبات و سهولة الطريقة للمعلومات، و برعوا رغم كل ذلك، و حري بهذه الذكريات أن تبعث الروح في المومياء، و تحرض السكون على الوثبة. فتأمل إلى حجم المعاناة التي يصفها شاعرنا بقلمه و هو يتحدث عن مسيرته على الأقدام إلى القصبة حيث يقول:
وصلنا السيحة في بيت الحاج عبد الرضا بحشاشة أنفسنا، و كان ذلك أول صفر و تركنا حسين <هو أخو شاعرنا، و كان محبوباً عنده، و هو أصغر من حسن، يأتي عليه الكلام> مريضاً، و إبراهيم <هو أصغر الأخوة توفي مؤخراً رحمه الله> رضيعاً، و الوالد وحيد لا يملك شيئاً، فجا بعد أيام يتبع أثرنا، و قد قرأت بعض المجالس منفرداً و تارةً أقرأ المقدمة لخطيب هناك من أهل الجزاية يسمى ملا عبد الرزاق لا يملك إلا الصوت الجميل فقط، و لا يملك من مقومات الخطيب سواه، و كان عمري إذ ذاك خمس عشر سنة، و أخي حسن اثنتا عشرة سنة، فتحصلت على جملة من القرانات و أعطيتها الوالد لكي يرجع، حيث أن البيت هناك ليس فيه سوى الوالدة رحمها الله تعالى و هي غريبة، فأخذ معه حسن و رجع به و بقيت وحدي.
فهل يا ترى من السهل أن يبرز أحد من هذا المحيط المتلاطم بأمواج من المتاعب إلا أن يكون متفوقاً و ماهراً و موفقاً في نيل المعالي و اقتحامها، ففي غمرة المأساة و الصعوبات بدا شاعرنا خطيباً متألقاً مجدداً، يرغب إليه سكان تلك الأطراف، و كان يفضل على غيره في أطراف المحمرة و خوزستان و ضواحي البصرة كقطعة الشيخ و غيرها، فأخذ الناس ينثالون على الحضور عنده و الاستماع إليه بلهفة و شوق بالغين، حتى تألق شخصه و لمع نجمه في أرض القصبة، و هي محفل العلماء و الأدباء، ذلك مع وجود الخطباء المنهالين على تلك المنطقة من بلاد العراق.
و قد كانت المنطقة في أشد أزماتها، و رحى الحرب تدور على رؤوس أهلها، و مع ذلك فقد ميزوه في العطاء تقديراً له، ففي زمن لا يحلم فيه الخطيب بمائة قِراناً قدم له أهالي القصبة مائتي قِراناً، كما قال في مذكراته:
و بانسلاخ صفر رجعت إلى الجزيرة بعد أن اتفقت على القراءة في القصبة للسنة الآتية بأجرة تعتبر في ذلك الوقت من الأجور الراقية، و هي مائتا قران في حسينية ملا سلمان الجمري رحمه الله، و كان هو خطيباً كذلك و لكنه أُمي لا يقرأ و لا يكتب.
و قد صحب شاعرنا من موقع إقامته في الجزيرة إلى القصبة أحد أعيان الجزيرة و كبارها و واحد من المفتونين بحب الخطيب الجمري و هو الملا خزعل <و قد سمعت من الشيخ عبد المحسن نجل شاعرنا المرحوم قوله أنه رأى في أيام طفولته الملا خزعل رحمه الله و ذلك عندما اصطحبه والده معه في زيارة للإمام الرضا عليه السلام، و قد لمس حينها الود الكبير المتبادل بين الخطيبين الكبيرين، و يقول أن هذه العلاقة الحميمة لا زالت غضة طرية منذ كانا شابين يافعين حتى أيامهما الأخيرة. و الجدير بالذكر هاهنا أن الملا خزعل توفي في العام نفسه الذي توفي فيه الملا عطية الجمري رحمهما الله>. و كانت مشاركته في الحسينية المذكورة كما يبدو موفقة جداً، و لذا تعاقدوا معه للسنة المقبلة أيضاً.
و في نفس هذه السنة، و هي سنة 1334هـ بدأت تنحسر الحرب عن المنطقة و يعم الهدوء. فما رجع شاعرنا من القصبة إلا و قد ابتعدت الحرب عن محلتهم، فرجع فيمن رجع إلى منازلهم في قطعة الشيخ (القطعة) بموضع يقال له (المكري) أو (المجري) و هناك تم زواجه ببنت الملا محمد بن سلمان و هي والدة المرحوم الملا يوسف الخطيب الشهير، و لم تنجب غيره <ولد الخطيب البارع و المتميز الملا يوسف بن ملا عطية في النصف من شعبان عام 1336هـ، و ذلك اعتماداً على ما جاء في مذكرات والده>.
نهاية التغرب:
لقد راود تلك العائلة المهاجرة حب الوطن، و حملها الشوق إلى الأتراب و التراب على العود إلى البحرين بعد فراق طويل، و لا أشك في أن ذكراها باتت تدغدغ مشاعر شاعرنا الخطيب لما يحمل من حس مرهف و رقيق انطبع على خياليه النثري و الشعري، فازدحمت بالخواطر صور متناقضة متباينة، تعكس في آن مزيجاً من الشوق و الخوف، فطافت طيوف اليقظة بجميع صورها الجميلة في خاطر الشاب الطموح، و جاش فؤاده بذكريات الماضي الجميل، و تراءت له صور البحر مختلطة بالبرائح المتعددة الأذواق بما فيها من مرح و ما فيها من تنافس فني و أدبي و خطابي، ببساطة القرية و بساطة أهلها؛ فيا لها من صور جميلة تعود بشاعرنا إلى زمن الطفولة البريئة بين أحضان الخليج فتحرك شوقه لتلك الحياة بكل ما فيها.
بيد أن الأسرة المهاجرة لم تزل على خوفها القديم من تبعات التجارة المفلسة و القوانين الهمجية، و لم يكن هذا الخوف حكراً على هذه الأسرة المهاجرة فحسب، بل كانت العائلة الأم في البحرين هي الأخرى تتخوف على أبنائها من الرجوع، فمما يحكيه الملا إبراهيم –شقيق شاعرنا الأصغر- أن والده زاير علي قال يوماً لإخوته الذين كانوا يترددون عليه في القطعة: إني أريد الرجوع إلى البحرين. فغضب عليه أخوه الأكبر كل الغضب و قال له بلهجته الدارجة: (إن جيت ربطوك)، و كان علي ضعيفاً أمام إخوته إذ كان أصغرهم و ما كان ليخالفهم في أمر ارتضوه له، إلا أن عطية الشاب المتحمس لم يرق له هذا الحديث الذي أثار حفيظته فقال بذات اللهجة: (بنرجع و بنشوف من اللي يربطنا).
و هكذا لم يصمد الخوف طويلاً أمام الحنين إلى أرض الوطن، و كان لوعي شاعرنا بمقادير الأمور و دقته في استيعاب النتائج الأثر البالغ في حسم القرار، حيث استوحى رغم تلك الصعاب مستقبله المشرق و قرأ نجاحه الواعد، و عزم على خوض تجربته الجريئة بكل حزم و قناعة.
و أنا لا أشك أنه كان موفقاً في قراره و مسدداً في خطاه، كما لا أستبعد أن يكون قد دعم قناعاته تلك برؤى منامية يعتد بها و يعوّل عليها، فبالرغم من أنه (لم يكن ممن يعتمد في حياته على الأطياف المنامية أو يوليها أهمية، إلا أن حياته كانت مليئة بالرؤى و النبوءات و الإشراقات الربانية الكاشفة عن العناية الإلهية التي كانت تحطوه و تسوقه إلى النجاح.
و قد أشار في مذكراته إلى بعض ذلك عندما تحدث عن أحداث عام 1338هـ إذ يقول:
فيها انتشر وباء الكوليرا، و كان شديداً و قد طالت مدة الوباء، و فيها قرأت أيام صفر لدى محمد الو كنعان شيخ بني تميم.. و فيها رأيت الطيف الأول (حضور الخمسة عليهم السلام، و الأحرى في السنة التي قبلها، و في هذه السنة رأيت الطيف الثاني، و هو أن أحد الملوك طلبني لأكون خادماً و أعطاني سلاحاً و أجلسني على كرسي، و كانت تخرج الأوامر منه بذلك و لم أره <و قد أخبرنا أحد تجار البحرين و رجالها البارزين اليوم و هو الحاج عبد النبي مرهون الساري، الذي كان و ما زال يفتخر بصحبته و ملازمته لشاعرنا، و بكونه يحظى من خطيب البحرين بتقدير خاص و معاملة مميزة، حيث يدخل عليه في مكانه الخاص و يجلس معه على فراشه و يستمع إلى أحاديثه التي لربما لا يسمعها منه إلى الخواص: أنه في جلسة ثنائية مع ملا عطية الجمري سأله: لم أسمَوك خائناً في أيام الهيئة ؟ يقول: فنظر إلي و قال: يا بني، سوف أخبرك بقصتي على أن لا تقصها لأحد ما دمت أنا حياً، ثم أنت حر بعد مماتي. ثم قال: في الأيام الغابرة التي كنت أعيش فيها بالبصرة و ما حولها و لم يكن لي حينها من الأبناء سوى ابني يوسف، و في ليلة من ليالي تلك الأيام رأيت في عالم الرؤيا أن رجلاً جاءني و قال لي: ثم فإن الشيخ خزعل يدعوك ]الشيخ خزعل هو حاكم خوزستان حينها[. فقمت و سرت معه إلى ناحية الشط، و إذا أرى في الشط سفينة راسية لم تر عيني سفينة بهيئتها أو حجمها قط، فصعدت على ظهر تلك السفينة وإذا أرى فيها مكتباً من الزجاج، و في هذا المكتب رجل مهيب، فلما اقتربت من مكتبه قام على رجليه، و لما دخلت عليه و سلمت مد يده و صافحني. ثم قال لي: هل تريد أن تعمل عندنا ؟ فقلت له: نعم، أريد أن أعمل عندكم. فأخذ عباءة من الوبر (أي البشت) و ألبسني إياها. ثم أعطاني سلاحاً (بندقية/ ريفل، دكسن) و قال لي: اجلس على هذا الكرسي. فجلست على الكرسي، و انتهت الرؤيا.
يقول الشاعر: بعد هذه الرؤيا وجدت في نفسي القدرة على نظم الشعر يوماً بعد يوم و شعرت بتوفيق عظيم حتى أصبحت شاعراً و خطيباً معروفاً. فلما رجعت إلى البحرين و مضى علي فيها سنون طويلة إلى أن كان من أمر الهيئة ما كان ناشدني بعض المشتغلين بأمور السياسة من أفراد الهيئة أن أنظم لهم قصيدتين مؤيدتين، فقمت بالفعل في ليلة من الليالي بنظم هاتين القصيدتين و وضعتهما تحت وسادتي ثم وضعت رأسي و أخلدت إلى النوم. و ما أن غفت عيني حتى رأيت الشخص نفسه الذي جاءني في الرؤيا قبل أكثر من 35 سنة و هو واقف على رأسي و يقول لي: قم، الشيخ خزعل يريدك. فقمت معه، فجاء بي إلى نفس السفينة التي رأيتها في رؤياي الأولى و إذا هي لم تتغير صورتها، فلما صعدتها رأيت نفس الرجل المهيب جالساً في مكتبه، فاقتربت من مكتبه فلم يقم لي كما فعل في السابق، و سلمت ثم وقفت أمامه، فقال لي و هو شبه الغضبان: إذا كنت ستعمل عند غيرنا فأرجع علينا سلاحنا.
يقول ملا عطية: فسبحان الذي أنطق لساني بالجواب، فقلت له: أعاهدك أن لا أعمل عند غيرك ما حييت. فقال لي: اجلس على كرسيك إذاً. فجلست.. فلما انتبهت لصلاة الفجر أدركت أن الإمام الحسين عليه السلام قد أعطاني سلاح التوفيق و أنه سوف يسترجعه مني إن اشتغلت بخدمة غيره، فبادرت إلى القصيدتين فمزقتهما في الحال و ابتعدت عن الهيئة و أمور السياسة، و على إثر ذلك سميت (خائناً) و تعطلت مجالسي و جرى علينا ما جرى من شدائد، إلا أنني لم أُبالِ بشيء من ذلك.>.
فلقد اعتنى شاعرنا عناية كبيرة و فائقة بهذا الطيف و تفاءل به تفاؤلاً عظيماً، و لو لا ما حققه من فوز و ريادة في مضمار الخدمة الشريفة لحقّ لنا أن نرميه بالمبالغة في تعويله على تلك الرؤى، لكنه قد قرأ من تلك الإلهامات الكثير الكثير، فكانت بلا شك إشارات إلى سر نجاحه في مجاله الذي اختاره لنفسه عن رغبة و قناعة و حب و إيمان منقطع النظير لهذا الطريق المقدس، و هو طريق خدمة أهل البيت صلوات الله عليهم عبر إحياء ذكرهم بالنثر و الشعر، و قد لوحظ عليه الفخر و الاعتزاز بشعره الشعبي خاصة مما ينظمه في مصائب العترة المظلومة صلوات الله عليهم.
و قد جاء المصير طبقاً لتفاؤله بالطيف الذي رآه، و الذي فهم منه أن أهل البيت قد جندوه عندهم و أعطوه سلاحاً ماضياً، و هذا السلاح هو ذلك التوفيق العظيم الذي قاد شاعرنا الجمري إلى نيل قصب السبق في مضماره، إن شئت فقل هو فنه الراقي، أو ذوقه المتحضر، أو قافيته الملتهبة، أو قل: هو الحسين الذي لا يخيب من سلك طريقه مجداً مخلصاً.
و إلى هنا يكون فارس المنبر المخضرم قد أنهى قسطاً من العناء المرير، و طوى ملف معركة شرسة مع الحياة في الغربة و الصراع من أجل الاستمرار و العطاء، فقد خاض مع والده و إخوته الثلاثة مرارة الاغتراب و الانتقال من دار إلى دار، و من بلد إلى آخر، و ذاق مرارة اعتداء السراق و المرتزقة على بيوتهم و ممتلكاتهم الشخصية ما يذكرهم على الدوام بذل الغربة و عدم الأمان حيث لا عشيرة تحميهم و لا قرابة تأويهم؛ لقد سرق بيتهم مرتين و كانت المرة الثانية قرب رحيلهم.. و هذه الفقرة من مذكراته:
و في هذه السنة –سنة 1338هـ- جاء محمد ابن إبراهيم من البحرين و تكلم مع أبي في الرجوع إلى البحرين و أقنعه بذلك، و أقمنا له وليمة عظيمة حتى أننا طلبنا مواعين كثيرة. و في تلك الليلة سرق بيتنا مرة ثانية و أخذ ما فيه حتى المواعين التي استعرناها من الناس.
العودة إلى الوطن:
يقول أبو يوسف:
و في هذه السنة –سنة 1338هـ- عزمنا على الرجوع إلى البحرين، و كانت رحلتنا على متن بوم مملوء من التمر متجه إلى البحرين، و قد استغرقنا من فرضة المحمرة إلى فرضة البحرين 12 يوماً، و لما وصلنا فرضة المحرق اكترينا جالبوتاً من البوم إلى بني جمرة و مررنا بالجمارك بالمحرق و اشتريت حلوا كثيراً بروبية واحدة، و كان وصولنا إلى بني جمرة يوم 27 من صفر عصراً 1338هـ.
هكذا بدت الصورة لشاعرنا و هو يشق طريقه إلى مسقط رأسه، و لا شك أن العودة إلى الوطن بعد غياب طويل في زمن شحيح يشوبه عناء آخر في صورة أخرى، فالعائلة بعد لا تملك سكناً أو حتى مصدراً معيشياً، و الشاب الطموح لا يملك قاعدة ينطلق منها و عليه قبل كل شيء أن يستأجر مسكناً لأبيه و عائلته، فهو المسئول عنهم منذ دقت طبول الحرب.
لقد عاد خطيبنا الجمري إلى بني جمرة لينطلق منها بادئاً من الصفر، فاستأجر في قريته حجرتين متفرقتين، ثم استأجر بعد ذلك منزلاً متداعياً يشتمل على مجلس و غرفة واحدة، و كانت الأجرة في كل عام خمسين روبية.
و لم يستقر به المقام حتى راح يهفو إلى المعلم، فتتلمذ على يد الشيخ عبد الله بن أحمد العرب الجمري الشهيد ليلة السبت 27 ذي الحجة عام 1341هـ، و كان العرب هذا خطيباً أديباً فقيهاً، تربى شاعرنا في ظله فترة و أتقن عنه العلم، ثم أتم دراسته على يد الفاضل الشيخ محسن العرب نجل الشيح المتقدم، و أخذ عنه النحو و الصرف و الأدب حتى وفاته ليلة الجمعة 25 ربيع الأولى عام 1356هـ، و تجدر الإشارة إلى أن بين عائلتي العرب و شاعرنا الجمري علاقة ود و نسب بارزة إلى اليوم.
و ما أسرع أن أنهى شاعرنا الشاب طريقه للمجد، فبدأ في بناء قاعدة ضخمة جداً في بلده البحرين، و امتدت شهرته إلى البصرة و القصبة فالمحمرة، و منها إلى الفرات، مروراً بالإحساء و الكويت، و انساب ذكره انسياباً نحو هذه الأقطار، يلهج أهل الذوق بشعره الرقيق المتميز بسهولته الممتنعة، و بلسان وسط بين الفرات و شط العرب و الخليج العربي.
الانطلاقة:
مما لا شك فيه أن للبحرين موقعيه خطيرة على الصعيد الفكري الخليجي عموماً، و تعد من المراكز المهمة في إبراز الخطيب أو الشاعر، و قد اشتهر من أرضها أكثر المشاهير أهمية عند المهتمين بقضايا أهل البيت عليهم السلام، على أن للخطيب الحسيني منزلة خاصة في نفوس محبي أهل البيت عليهم السلام، و أكثر الشيعة عناية بالخطيب المتميز هم أهم البحرين، فهم يتفوقون على أهل الخليج في تقييم الخطباء و حسن الاستماع و التنافس بالمشاركة في الرثاء الحسيني، و هم متميزون في احتضان أبنائهم و تشجيعهم على ارتياد المنبر الحسيني الشريف، و يرجع هذا إلى أسباب كثيرة، منها العراقة و الأصالة التاريخيتين لهذا البلد الكريم و الجذور العلمائية الفكرية الراسخة في أذهان أهله و التشيع القديم الذي عرف به أهله، و التزامهم بالمنبر الحسيني كأساس يحيون من خلاله أمر أهل البيت الذي أُمروا بإحيائه، فهم خير من يُكرم خدمة الحسين صلوات الله عليه على الإطلاق.
أقول هذا بغض النظر عن المؤثرات الأخيرة في تقييم الخطيب الجديدة في بعض الأحيان و الدخيلة في حين آخر، المتقلبة حسب الأهواء السياسية و الرغبات المؤقتة و الاعتبارات الكمالية كالشهرة أو البيتية، و هذه اعتبارات بالغة التأثير في العهد الأخير من تاريخ الخدمة الحسينية، قد عصفت في كثير من الحالات بصفاء أجواء الخدمة الحسينية و كدرت صفوه الجميل، و لم تسلم بقية شعوب المنطقة من هذه الاعتبارات التي تبتعد عن الموضوعية قدر ابتعادها عن فهم القضية الحسينية المباركة.
هذا.. و لقد اعتنى أهل البحرين بجميع الخطباء المتميزين من مختلف الجنسيات، و كان ذلك وراء انطلاقتهم في عالم التشيع و من ثم في العالم الإسلامي، و هذه حقيقة سمعتها شخصياً من رموز المنبر الحسيني اليوم المشار لهم بالبنان بكل تأكيد و واقعية، فالذين اشتهروا من البحرين ثم انتشروا هم أكثر تميزاً من الذين اشتهروا في أي موقع آخر.
و من هذه الأجواء انفجر عمود من نور فأسفر عن شهرة الخطيب الشاعر الملا عطية الجمري، و كانت بداية انطلاقته في قرية الدراز <قرية الدراز من أقرب القرى إلى قرية بني جمرة مسقط رأس الخطيب الشاعر ملا عطية الجمري رحمه الله تعالى، و لا يفصل بينهما اليوم سوى شارع، و ترتبط القريتان بأواصر متينة جداً>، و هي من القرى الشمالية، و ذلك عندما قرأ مجالس عزاء الشيخ سلمان العصفور، بواسطة الحاج إبراهيم بن الحاج يوسف العصفور الدرازي. و يبدو أن أول من اكتشف تميزهم أهل الدراز، فقد انهال عليه المعجبون و استبشروا بموسم معه متميز و متجدد بعيداً عن الجمود و التحجر، و هذا بحد ذاته يدل على طموح قرية الدراز و حسن تقدير أهلها، و هي إيجابية وجب الوقوف عليها بإكبار و احترام.
و قد أحيى شاعرنا شعائر محرم الحرام في السنة عينها بنجاح منقطع النظير في قرية الدراز في حسينية المتروك برئاسة الحاج عبد المحسن، و بأجرة خيالية آنذاك و هي أربعمائة روبية، و كان ذلك عام 1339هـ.
سوق الخميس:
لقد كانت قرية الدراز هي انطلاقة الملا عطية الأولى نحو الشهرة، و كان لا بد له من بذل الوسع و الجهد للتوسع، فشمر ذراع العمل يصارع ظروف الحياة لنيل أعلى الرتب الشريفة، منتحياً الأسلوب الدارج في ذلك الوقت، و مرتاداً لنوادي الخطباء و العلماء آنذاك و التي من أهمها السوق الشعبي الكبير الذي يطلق عليه اسم (سوق الخميس)، و هو السوق الواقع بالقرب من أهم و أقدم مسجد شيد في البحرين و ما حولها و هو (مسجد الخميس) الذي بني في عام 99هـ -717م-، و يقال أن الخليفة الأموي الثامن عمر بن عبد العزيز هو من أمر ببنائه، و لا يزال المسجد قائماً في موضعه إلى هذا اليوم.
و كان سوق الخميس المشرع في كل خميس –و مثله كثير من الأسواق الشعبية المكتظة بأصحاب الحرف و السلم و المواد الغذائية- مسرحاً أدبياً و علمياً شبيهاً بسوق عكاظ، حيث يجتمع فيه الناس باختلاف طبقاتهم، و يلتقي فيه الأعيان و العلماء و الأدباء من شتى أنحاء الجزيرة الصغيرة ليتبادلوا فيه أطراف الحديث، و بذلك يتسنى للناس معرفتهم عن قرب كما يتسنى للكسبة المنهمكين في عناء الحياة الانتفاع من تواجدهم و السؤال عن أمور دينهم، و لا شك أن وجود العلماء و المثقفين في مثل هذه المحافل يساهم بشكل فعال في تثقيف المجتمع و تحضره، فكان الناس إذا أرادوا خطيباً أو عالماً طلبوه في سوق الخميس كما حدث ذلك مع شاعرنا أبي يوسف حين طلبه أهالي قرية النويدرات.
من الدراز إلى النويدرات:
تُعد النويدرات من قرى البحرين المهمة على الصعيد الفكري و الثقافي، و قد عاش أهلها في الماضي على صيد الأسماك و الزراعة، إلا أن طموحات أهلها لم تكن لتقف عند هذا الحد البسيط، و لم يحسبهم محيطهم على الوضع التقليدي المتاح آنذاك، فهم دعاة الانفتاح و حرب الرتابة و الجمود، و هم يتطلعون إلى التجديد و الإصلاح، و على الأخص في مجال المنبر الحسيني الذي كان و لا يزال المؤثر الأول في بنية الثقافة الشعبية، و هم يشهدون انحسار دور المنبر إلا عن ترديد الشعر الشعبي بغثّه و سمينه، و يلمسون ضحالة المستوى بسبب شح الموارد و المصادر و ندرة الكتّاب، و قد تأثرت دول الجوار كلها بذلك الوضع العام، و صدّرت البحرين قديماً هذه السلبية لجاراتها، كما أنها قد صدّرت الوعي و الإيجابية أيضاً في تأريخها القريب.
في هذه الفترة المظلمة من تأريخ البحرين بزغ نجم الملا عطية الجمري بفن غريب على أهل البحرين، فقد استغل المنبر الحسيني و المواسم المهمة في أنشطة حضارية فعّالة إضافة إلى ما كان عليه المنبر حينها، فعمل على انتقاد الوضع العام و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و التأمل في التأريخ، و الخوض في العقائد و غيرها من الأمور التي ما عهد أهل الخليج طرحها على منبر سيد الشهداء عليه السلام، إذ كان المنبر مقصوراً على العزاء فقط بأسلوبه البدائي المألوف.
و قد تأثر بعض النخبة من أتراب شاعرنا بهذا الأسلوب الجديد، و عرفوا و اشتهروا به بعد ذلك بسبب مكوثهم في البحرين، فكانوا أكثر اتساعاً منه و هو لا يزال خطيباً جديداً على الجمهور. و مما يحكى أن الحاج أحمد بن معراج –و هو من أعيان النويدرات و نشطائها- استمع إلى الملا سعيد العرب فأعجب بحداثته و خروجه عن المألوف و اهتمامه بما ينفع الناس، و أثار اهتمامه ذلك التجديد، فاقترب منه بعد فراغه من الخطابة و أبدى له إعجابه بهذا الأسلوب الجديد و تأييده للتغيير و التجديد. فقال له الملا سعيد العرب: إن هذا النوع من الخطابة لا يوجد في البحرين إلا عندي و عند خطيب بني جمرة اسمه (ملا عطية)..
فقال له: أي أراه ؟
فقال: تراه في سوق الخميس، وصفته كذا و كذا، و لباسه كذا، و يجلس في الموضوع الفلاني.
فجاء الحاج أحمد في يوم الخميس إلى سوق الخميس و هناك تعرف على شاعرنا رحمه الله فقال له: أنت ملا عطية؟ فقال: نعم. فدعاه إلى القرية المذكورة، و منها كان انفتاحه على جزء آخر من البحرين ذي أهمية في الحركة الاجتماعية <تجدر الإشارة إلى أن هذه القصة من حكايات الحاج إبراهيم بن علي، الأخ الأصغر لشاعرنا الراحل، و يقدر أن تكون القصة في سنة 1339 – 1340هـ>.
هذا.. و تعاقبت الأحداث و المآسي بحلوها و مرها، و صقلت الأيام موهبة شاعرنا الفذ، و فرض نفسه على الساحة بهدوئه المعهود و رزانته المشهودة، و تربع على عرش الخطابة الحسينية، فافتخر به أهل البحرين و اعتز به أهل الخليج بشاطئيه، و عرف عندهم بالشخصية اللامعة ذات المزايا المتعددة و المواهب الجمة، فهو العالم المجدد، و الخطيب المصقع، و الشاعر الملهم، و الراثي الموفق، و الوالد الفاضل.. و فوق ذلك هو الخادم المخلص المقبول عند أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين.
فذاع صيت الملا عطية في أرجاء الخليج، و أحبه من أحب الحسين عليه السلام، و تاقت نفوس الموالين لحضور وعظه و الاستماع لرثائه الشجي في أرجاء الدول المجاورة، فكان كثير السفر –و خاصة في شهري محرم و صفر- للخطابة في حسينيات تلك البلدان.
فقد زار الإحساء (سنة 1354هـ) و قرأ في حسينية (آل أبو علي)، و هناك نشأت بينه و بين كبار شخصيات الإحساء علاقات حميمة و وثيقة، فمن تلك الشخصيات سماحة العلامة الشيخ موسى أبو خمسين (قدس سره)، و شاعر الإحساء الشيخ كاظم الصحاف و الخطيبان المعروفان الملا داوود الكعبي و الملا ناصر بن نمر (قدس سرهما)، و غيرهم كثير.
و في سنة (1361 هـ) زار الكويت، و قرأ في الحسينية الجعفرية التي أسسها المرجع الراحل المرحوم آية الله الميرزا علي الحائري الاحقائي (قدس سره)، و كانت له علاقات حميمة معه، و قد حدثني بعض أعيان الكويت أنه اصطحب المرجع المذكور و شاعرنا في رحلة ترفيهية إلى البر في الكويت، و قد علقت في ذهنه بقايا أبيات كان قد قالها شاعرنا مرتجلاً يتحدث فيها عن ورد الربيع في صحراء الكويت و يثني فيها على الحائري الراحل، و تجدر الإشارة إلى وجود أكثر من قصيدة في ديوانه الفصيح في مدحه أيضاً، نعرض عن ذكرها روماً للاختصار.
كما قرأ شاعرنا في الكويت في الحسينية الخزعلية كذلك، و كانت له علاقات طيبة بالعلماء و الخطباء في الكويت، شأنها شأن كل بلد يزوره، و منهم العلامة الفاضل الشيخ إبراهيم المزيدي (قدس سره) الذي يعد من أعيان الكويت و علمائها، و هو مؤسس مسجد المزيدي العامر في عاصمة دولة الكويت، و الملا حسن العبد الله الناصر (رحمه الله).
و كان على صلة طيبة وطيدة بالأديب المعروف الملا عبد الرزاق البصير (رحمه الله)، وله معه ذكريات تنم عن ود متبادل، فقد سمعت من المرحوم الملا يوسف نجل شاعرنا (رحمهما الله) ينقل عن أبيه: أن الملا عبد الرزاق البصير خطيب حسيني معدود، و أديب عالم، و مفخرة للكويت.. كما أنني سمعت من الملا عبد الرزاق الثناء الكثير على شاعرنا المرحوم <غير أن البصير لم يوفق لمواصلة المسير في خدمة سيد الشهداء صلوات الله عليه و التحق بالوظيفة الحكومية و انشغل بالإعلام و شؤونه، و كان آخر حياته يتشوق إلى العودة إلى مزاولة الخطابة الحسينية، و قد حالت الانشغالات و الموت دون تحقيق هذه الرغبة>.
أما زيارة شاعرنا المرحوم للقطيف فكانت في سنة (1366هـ)، حيث احتفى به كبار رجال العلم و الأدب هناك، و منهم العلامة السيد ماجد و الشيخ علي الخنيزي (رحمهما الله) و غيرهما من أهل الإيمان و التقوى في القطيف و سيهات، و قد تشرفت حسينياتها الكبرى بخطابته و وعظه.
و له رحلات متعددة للمدينة المنورة على ساكنها و آله الصلاة و السلام، و علاقاته متميزة فيها، و بصماته شاخصة على منابرها، و أبياته محفوظة عند أهلها، و حبه كبير في قلوبهم، و لقد زرتهم برفقة نجله الشيخ عبد المحسن قبل سنوات، و نزلنا على بعض أعيانهم و كبارهم، و هم أصدقاء للمرحوم، فألفيت المدينة جمرية الهوى، و هم لا يملون من ذكر الملا عطية و الثناء عليه، و ذكروا أن المرحوم طوّر من وضعهم المنبري، و أسس مواقيت مجهولة عندهم للقراءة، و فرض عليهم القراءة على المنبر، حيث أنهم كانوا لا يميزون الخطيب في الجلوس بينهم، و يخطر على بالي أنه كان يأتيهم للقراءة في رجب أيام وفاة مولانا الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لسنوات متتالية، و يحيي عندهم ذكره صلوات الله عليه.
و له سفرات متعددة للإمارات و بالتحديد إلى (أبو ظبي)، و فيها كان ينزل مكرماً بين أهلها الكرام و يحتفي به أعيانها، و له ذكريات طيبة فيها مع أبناء المرحوم الحاج عبد الله الصايغ، و في مذكراته الخاصة الثناء على بيتهم العامر و وصف كرمهم، و في بيتهم نظم أبيات الملحمتين العلوية و الفاطمية (الموشح) و ذيّل أبياته بذكرهم، و لقد حللت عليهم ضيفاً قبل سنوات قليلة فألفيتهم معتزين به، ذكراه في أذهان أولادهم، محتفظين بقصائده، و عندهم صورة تجمعه بهم، إذ كان شديد الحب لهم، و في ديوانه الفصيح الكثير مما يخصهم، منه ما يصف شوفه لهم، و منه ما يمدحهم و منه ما يؤرخ بناء حسينيتهم، و منه ما يؤرخ لولادة بعض أولادهم، و له قصيدة سماها نفثات أبو ظبي، و قد كتبها في الطائرة و حتى التقى بأهلها، و قد أظهر شوقه إلى حماها، و فيها يذكر جمالها، و يذكر الشيخ سلمان الخاقاني رحمه الله، و قد أرخ بعض قصائده تلك في عام 1396هـ و عام 1397هـ.
شاعريته:
كان رحمه الله سريع البديهة حاضر القافية، و إذا نعى أقرح الأكباد و ألهب الأفئدة، فيسرق الدمعة و يحيي الوقعة في أوجز قافية و أحلاها، و يستعير أفضل الألفاظ لأحسن المعاني ليُكون جمرةً سريعة النفوذ إلى النفوس عظيمة التأثير على القلوب و بالتالي فهي سهلة الحفظ.
و لربما منع عظيم وقع أبياته تارة على قلوب المستمعين من حفظها أو تخليدها، كما حدث ذلك عندما توفي ابن عمه عبد علي و هو في ربيع أيامه و ذلك بعد يومين من زواجه، فوقع خبره كالصاعقة على رأس شاعرنا فوقف موقف المؤبن على قبره ساعة دفنه –بجوار والده حسين، ابن عم شاعرنا- مسلطاً سيف شيطانه على القلوب بأبيات ارتجلها حال تأثيرها دون حفظها، و هذا مطلعها:
جبنا لك العريس يَحســــــين ويّا العرس ما ﮔـعد يومين
و قيل: كان كذلك:
دﮔـعد ترى جبنا لك العريس يَحسين
قيل: إنه رحمه الله مُنع من إكمالها لهول و عظيم ما تصب على النفوس و الله أعلم.
و كيف كان، فقد اندثرت هذه الأبيات حالها حال الكثير من قصائده المرتجلة في ساعة العسرة أو الفرحة، و يحضرني و أنا أكتب هذه السطور ما حدثني به الصديق العزيز صالح بن الحاج جاسم بن حسن (أحد القائمين على مأتم الاثني عشرية في قرية المرحوم) قال: كنا جلوساً مع المرحوم في دكان أحدهم، و معنا بعض المؤمنين منهم الحاج حسين ابن الحاج محمد ابن عم الشاعر المذكور أعلاه، إذ طلع علينا أحد العارف <يعرف هذا الرجل باسم عبد النبي عيسى كاظم> و كان مرتدياً القبعة التي يرتديها سائق الدراجة النارية، فالتفت إليه المرحوم في الحال و أنشد:
يا لابسـين القيصـــــــريه تمشون للجنه سويه
و جدامكم يمشي عطــــيــه جوار ابن خير البريه
و اتعاينون الناصبــــــــيه في النار كلها منصلـــــــيه
هذا، و لربما مزج شاعرنا بين شاعريته الجذابة و روحه المرحة في كثير من مواقفه الظريفة فيُذكر على سبيل المثال أنه مر به أحدهم في طريقه و هو ينشد مطلعاً لأحد قصائده الشهيرة و يقول:
وين الـﭽـفــــين يَسردال الحــــرب وين الـﭽـفين
فأجابه ممازحاً رحمه الله في الحال و بلا تروٍ فقال:
تعمى العينــــــين ولا تشوف الـــدرب تعمى العينين
و لم تكن همّة شاعرنا مقصورة على الدارج من الشعر، بل دل ديوانه المخطوط على كونه آية في الشعر الفصيح، و لم يكن ليتناول الدارج و يكثر منه إلا لوقعه على النفوس و قربه من أحاسيس العامة من الناس، و بهذا و ذاك يكون أقرب إلى الثواب و الفضل، فإذا واجهت شعره الفصيح واجهت روحاً سحرية لا تتجلى إلا في العباقرة من الشعراء.
و إن أعجب لشيء فعجبي لعزوف المصنفين في شعراء الخليج و أدبائه عن ذكر هذه المفخرة، فإن كان مانعهم عن ذكره إكثاره في الرثاء فإن له شعراً مبتكراً في جميع النواحي، فضلاً عن تخليده للمناسبات و الأحداث المهمة في البحرين و الخليج إبّان الحرب العالمية و غيرها، فقد كان له في كل باب يد و كلمة. و لو صحبتني قارئي الكريم في جولة سريعة على بعض غرر شعره و درره لترى محاسن الكلام و آيات البيان، لأدركت بأن الكلمات ما كانت لتفي حق شاعرنا أبداً.
فقد قال متغزلاً:
رنى فسل كيف أصمتني قوائــــله اهتاز فانتهب الأحشاء عامله
و انتاش لبي بسيف من لواحــــظه مضاه يزري بما أمضت صياقله
لحاظه ما جنت لكن جنا بصــــري ليّ إذ جر ما تردي غوائله
قم فاترع الكاس صرفاً لا يمازجهـــا إلاّ رحيق اللما ممن تغازله
و في جلسة أدبية في مجلس الفقيه الأديب الشيخ عبد الحسين الحلي المميز ضمت الشيخ محمد علي حميدان و الملا أحمد بن رمل و شاعرنا، عرض عليهم الحلي بيتاً من الشعر و اقترح على الحاضرين تشطيره، و كان البيت:
و لو أن من أهواه وسط حشاشـــتي لقلت ادن مني أيها المتباعد
فقال الشيخ محمد علي حميدان:
و لو أن من أهواه وسط حشاشـــتي لما هجست أحشاي مَن هو قاعد
و لو تلفت روحي و حل محلــــها &nbsnbsp; قلت ادن مني أيها المتباعد
و قال الملا أحمد بن رمل:
و لو أن من أهواه وسط حشاشـــتي لخلت نأت فيمن أحب المعاهد
و لو حل من نفسي كنفسي تـــدانياً قلت ادن مني أيها المتباعد
و قال شاعرنا:
و لو أن من أهواه وسط حشاشـــتي و إني و ذاك الخل في العد واحد
و كنت له روحاً و روحاً يكـــون لي لقلت ادن مني أيها المتباعد
و قد طُرح لغز في صوت الإذاعة البريطانية عام 1375هـ مكوَّن من ستة أبيات من الشعر، و هو:
ما اسم ثلاثي أتــــــــــى حاز اللطائف و الدرر
فإن حذفت أولــــــــــه رف بقلبي كالوتر
و إن حذفت آخـــــــــره قد عابه كل البشر
و إن تصحف يا فـــــــــتى فالناس منه في خطر
و إن أردت عكســـــــــه فراحة عند السمر
هذا مقالي فأنجــــــــــزوا بالحل يا أهل الفخر
فأجاب شاعرنا على البديهة بخمسة أبيات تتضمن الجواب، فقال:
الاسم عندي واحـــــــــد من مسرح الفكر شرف
فعند حذف أوَلــــــــــه رفّ فؤادي أيّ رف
و إن حذفت آخـــــــــره شرٌ به الأشقى اتّصف
و إن تُصحّفه تجــــــــــد فيه لدى الناس سرف
و إن عكست راحـــــــــة من الفراش تقتطف
و قال في عام 1376هـ ملغزاً و معّمياً السيجارة أو الشمعة:
و معصورة كالرمح ماست بقدّهـــا لها عند نطق الجالسين صموت
تعيش إذا ما أنحلوها صبابــــــة و إن منحوها بالبقاء تموت
نمت من بنات الأرض طوراً و تـــارة نمتها وحوش في الفلا و حوت
و له منظومة نادرة جميلة في رحلته إلى هجر عام 1354هـ، و هي من أربع مئة و ثلاث و ستين بيتاً تقريباً، تشتمل على ذكر شخصياتها البارزة و مناطقها و ما فيها من رجال و عيون و بساتين و قرى.. أوّلها:
الحمدُ للهِ الدليلِ الهـــــــادي لسبُلِ التوفيقِ و الرَشَادِ
أحمدُهُ و أستَمدُ النِعْمَــــــــة منه و أرْجوهُ لِكشفِ النُعمة
ثم الصلاةُ و السلامُ النامــــــي على النبيّ المصطفى التُهَامي
صفوَتِه المبْعوثِ مِنْ تهامـــــــة و صاحبِ الكوثرِ و الكَرَامه
و صاحِبِ الناقةِ و البــــــرُاقِ و أشْرَفِ الخلقِ على الإطلاقِ
محمدِ المخصُوصِ بالشفــــــاعة و ملجأِ العبادِ عندَ الساعة
و منها:
حتى إذا ما ارتفع النهـــــــارُ و ثار من جهاتها الغبار
و استعرت لواهب الصيـــــوفِ لاحت لنا علائم الهفوف
فيا لها من بلدة منيعـــــــــة حصونها شاهقة رفيعة
سبعة أبوابٍ لها معـــــــدودة ما مثلها في هجر موجودة
و الخلف فيها خارج و داخـــــل البعض رُكّاب و بعض نازل
و الطرقات يا حماتي حولهــــــا تبتلع الخلق و ترمي مثلها
حميرُها ليست حساباً تحصــــــى و الطرفُ لا يبلغ منها الأقصى
قدّرتُ ما يدخلُ من بابيــــــنِ مثل الذي يوجدُ في البحرين
و حولها شيْدتْ حصونٌ شاهقــــة كأنها من صنعة العمالقة
مأمونة من العدى حصيـــــــنة مطلة شرقاً على المدينة
من الشمال قد دخلنا فيــــــها فخلتُها تغص من أهليها
و الحصنُ فيها للهواء شاهـــــقٌ و خلف ذاك الحصن خُطّ خندقُ
و كان فيه منزلُ السلــــــطانِ تحوطه منازلُ الأعوانِ
و له رائية بديعة كتبها عام 1352هـ يجاري فيها قصيدة للشيخ عبد الله بن سلطان الخطي و هي ما يقارب من مئة بيت و هي غزل بديع، يتخلص عنه إلى مدح أمير المؤمنين عليه السلام و يستطرد فيها مناقبه و مواقفه المهمة، مطلعها:
تبدّت كبدر شق جنح الديـــــرِ و أصمت بصمصام اللحاظ ضمائري
جنان تحامته البواتر في الـــــوغى غدا في سبيل الحب نهب فواترِ
لواحظها حتف و عين حيـــــاتنا مُدامٌ بفيها جل عن يد عاصرِ
جلّت لنا شمس الضحى بسفـــورها و أرخى سدول الليل فضل الغدائرِ
ألقت مقال المنطقيين من بــــدت عشاءً ذكا تغشي ضياً كل ناظر
فإن سمحت بالوصل مُتعت بالبـــقا و إن شمخت فالصبّ رهن المقابرِ
إلى أن يقول مادحاً أمير المؤمنين عليه السلام:
و عند انهزام القوم عن خير مرســـلِ بأحدٍ و قد ولّت بأشأم طائرِ
تبدّى لها كالليث يحمي عريـــــنه فأذهلها و استاقها حشر حاشرِ
و ما رسمت أم الخطوب بقلـــــبهِ من الجبن خوفاً من عدوِ مماكرِ
و لم تلف يوماً نصرها إذ تحزّبــــت على طيبة قدّامها شر غادرِ
و لم يفصح التأريخ عن مثل ضـــربة دهت عن يمين الحق بيضة عامرِ
و له في رثاء مولانا الإمام الحسن بن علي عليه السلام:
رويدك ناعي السبط ذاب فـــؤاديا بنعيك زلزلت الفضا و الفيافيا
و أضرمت نار الوجد في قلب فــاطم و جفن أبيها المصطفى عاد داميا
و أزعجت شهماً بالغريين مـــودعاً و أصبح منه القلب بالوجد وارياًَ
و منها:
به عدلوا نحو البقيع لدفــــــنهِ و في قبره ضم التقى و المعاليا
و هيَل عليه الترب فانهار ركــــنه و خر عليه معلن الصوت عاليا
يقول أخي حان التفرق بينـــــنا و أصبحت فرداً مالي اليوم ثانيا
(أأدهن رأسي أم تطيب مجالســـي) و تزهر أيامي و ربعك عافيا
لسم سرى بين الجوانح و الحشـــى بجسمك أوهاني وفتّ فؤاديا
(أأشرب ماء المزن أم غير مائــــه) و جسمك في طي الملاحد ثاويا
أخي كم تقلبنا على صدر جدنــــا و كم ضمّنا للصدر بالشوق حانيا
(بكائي طويل و الدموع غزيــــرة) لفقدك و الأيام عدن لياليا
أُخيّ وداعاً قد تبوّأت راحــــــة و خلفتني صبّاً أعاني شجائيا
و له في رثاء الصّديقة الزهراء عليها السلام:
ولّهني تجــــــــاوب الأرزاءِ بالمصطفى و الآل و الزهراءِ
أبدت لها الأمة ما قدر أضمــــرت لها من الأضغان و الشحناءِ
فكابدتها محناً لو لامســـــــت طوداً لزال عن ثرا البوغاءِ
و منها:
و اندفعت خلفهمُ لمسجــــــدٍ غصّ بأهل البغي و الغوغاءِ
تدعو و كفّاها على هامتــــــها خلّو علياً رعتموا أبنائي
فماجت الأرض و مارت السّــــما و اضطربت جوانب الأرجاءِ
و لم تكن تقصد إهلاكـــــــهم إذ شأنها الصبر على البلاءِ
بل لتريهم ما به رب الــــــورى أكرمها من سابغ النعماءِ
و له في رثاء مولانا الإمام الحسين بن علي (عليه السلام):
صاح كف الملام فالقلب صــــادي و جوى الحزن مولع بفؤادي
قد دهاني الزمان منه بكــــــرب فألفت الكرى و طاب سهادي
كلما مر ذكر حادة الطــــــف فحزني و لوعتي في ازديادِ
يتجافى عن المضاجع جنبــــــي فكأني افترشت شوك القتادِ
حين يبدو لي الحسين وحــــــيداً &nbsnbsp; بين تلك الجموع فرداً ينادي
يا جموع الطغاة هل من معـــــيث لبني المصطفى المغيث الهادي
و له في رثاءه عليه السلام أيضاً:
عرج فديتك و اسكب دمعك الجـاري على الطفوف و عقبها بتزفارِ
و ارو القبور التي لم يرو ساكــــنها من النمير تجد نوراً بلا نارِ
قف بي على جدث السبط الشهيد بـها ردحاً تهج من فؤادي أي تذكارِ
و منها:
تدعوه زينب و الأرزاء تخرســــها أين الحسين حمانا عصمة الجارِ
لم أنسها إذ بدت في الذيل عاثــــرة تؤمه بين ختار و كفارِ
شمس المعالي تشق الأفق زاهـــــرة لتدرك البدر مخسوفاً من الذاري
أهوت على موضع التقبيل لائــــمة و الجفن يهمي دماءً و الحشا واري
تقول يا طود فخرٍ قد أطاح بــــه سهم المنون فأضحى رهن أوعارِ
هذي عقائلكم من ذا يكون لــــها حمىّ إذا جد حاديها بأسفارِ
من لي إذا عسعس الليل البهيم عــلى تلك العيال و سيقت فوق أكوارِ
هذا عليلك منهوك بعلتـــــــه يدعو فلم يلق إلا شر جبارِ
و له أيضاً في رثاءه عليه السلام:
على كل واد منكم فيه سيـــــدُ سحايب دمعي غاديات و عوَّدُ
لكم يا بني الزهراء في القلب مــوطن سروراً و أحزاناً تقيم و تقعدُ
و كل زمان نال منكم بصرفـــــهِ له في الحنايا نار وجد توقدُ
و منها:
يقول إلهي قد وفيت بذمــــــتي قربت فقربني و لي منك موعدُ
و هذي بقايا مهجتي قد بذلتــــها يوزعها للبغي سهم مسددُ
بسبي نسائي و انتهاك مــــحارمي و تقطيع أوصالي لقربك أقصدُ
سأقضي و يبقى الدين حياً و فــادحي تراه هواة الدين ورداً يرددُ
و منها:
و لما تجلى الحق لم يهو صاعـــــقاً و خر كليماً خاضعاً يتعبدُ
مواضع تقبيل الرسول جلالـــــة لها الحجر القاسي و سهم محددُ
فيا ويل شمرٍ ما وطا بنعــــــالهِ سوى من دعاه الحق دس يا محمدُ
و له أيضاً في رثائه عليه السلام:
ليس تحلو مـــــــودة الآل إلا لنفوس إلهها زكّاها
أنفس لم تنل ولاء علــــــــي و بنيه قد خاب من دسّاها
أسرفت في عدائهم قادة البـــــغي و للغي قادها طغواها
حاربت دعوة الرسول و دسّــــت لحسين في كربلا أشقاها
دم سبط الرسـول هل وازنــــته ناقة في ثمود أو سقياها
لم تحاذر تلك العصابة بطش الـــــ ـحق يوماً و لم تخف عقباها
نصب عينيك صاح عاقبة الظلــــم أروني القبور أو ذكراها
أين حزب الطغاة من آل سفيــــان و صوت السباب من سفهاها
كم أشادوا منابراً تلعن الطهـــــر علياً ألا ترى منتهاها
كيف بادت و خلفت في البرايــــا سوء ذكرٍ في أرضها و سماها
تملأ الأرض و السما صرخة المظلـــو م بين الورى يرن صداها
شعره الدارج:
لقد تقدمت أسماء لامعة في فن الشعر الدارج، بيد أن لشاعرنا تألقه الخاص به، فإنه قد جمع فنونهم إلى فنه، و تعاطى مختلف فنون الشعر المتعارف، بل و زاد عليها بإبداعه و فنه، و قد أعانه على تألقه و تميزه أمور، منها..
- إخلاصه: و لربما تكون هذه الكلمة و مثيلاتها سهلة على اللسان، و لكنها صعبة ثقيلة في الميزان.. لقد لمس الأبعدون و الأقربون من شاعرنا المرحوم إخلاصاً للخدمة و انقطاعاً منقطع النظير، انعكست هذه الروح الطاهرة باعتقاداتها على شعره فجسّ صدقه صميم المشاعر، و امتلك زمام العيون فاستمطر الدموع.
و لم يكن يحب الانقطاع لتلك الناحية المقدسة لنفسه فحسب، بل اشترط على أولاده أن يعملوا جاهدين في خدمة الحسين عليه السلام، و أخذ عليهم أن يخدموا المنبر قدر الإمكان، و أدبهم على الإخلاص و صفاء النية في خدمة أبي الأحرار، حتى أنه كان يوصي الواحد منهم بمراعاة الخطيب اللاحق في الوقت أو في ترك شيء من تفاصيل المصيبة و غير ذلك، فقد كان يمارس هواية دينية يؤثرها و يحبها أكثر من كونه يؤدي وظيفة أو يتقن صنعة، فكان حافزه الحب لسيد الشهداء، و لأجله ذللت الصعاب و اجتيزت العقبات.. يقول رحمه الله:
من المعلوم لذي كل ذي مسكة من فهم، أن لكل قلب هواية، و لكل طلب شيء تضحية، و لا غرابة إذا قلت أن هوايتي في هذه الحياة إنشاد الشعر في رثاء أهل البيت المظلومين، و لا غضاضة إذا قلت أني ضحيت و سأضحي ما بقيت براحاتي و بكل ما في ساعات فراغي من ارتياح يأنس فيه الغير أملأها بالحزن لأستوحي من ذلك الشعر الرثائي، كل هذا في سبيل طلب الشفاعة من أهل بيت النبوة <من مقدمته (رحمه الله) على الجزء الخامس من الجمرات)>.
و كان ساق له إخلاصه و صدق خدمته للحسين عليه السلام الكثير من الفيوضات و التسديدات من قبل أهل البيت صلوات الله عليهم، حتى قال نجله الأكبر الملا يوسف: إن والدي لا يفارق أهل البيت في منامه أبداً. و لما كان ما كان من أمر الهيئة في الخمسينيات <أحداث سياسية مرت بالبحرين> كان شاعرنا فيها اللسان المحفز و شاعرها الهزبر، بيد أنه تراجع عن مسيرته عندما رأى طيفاً مفاده أن الحسين يقول له: أرجع علينا سلاحنا لأنك الآن خادم لغيرنا <هذا الطيف متعلق بالطيف المتقدم ذكره>.
فانتبه شيخ الخطباء من منامه مدركاً بأن خدمة الحسين فتاة لا تقبل الضرة، فانعزل عن السياسة و أمورها بقافيته و شاعريته التي أوقفها لسيد الشهداء عليه السلام، و كابد ما ترتب على ذلك، و هذه فقرة من مذكراته:
و دخلت سنة 1374هـ، كان فيها اشتداد أمر الهيئة و غاية نضوجها و أثّر البعض عليّ و تعطلت مجالسي و كذلك ولدي و قصمهم سيد الشهداء، و كانت مجالسي في مأتم زبر <مأتم بن زبر الواقع في المنامة> و الدير<إحدى قرى المحرق>، و في شهر رمضان كانت بالمحرق.
و قد لا يخفى على الكثير أن شاعرنا قد ألف الكثير من قصائده على غرار رؤى رآها في منامه، و إليك على سبيل المثال بعض ما نقل عنه في ذلك: يقول رحمه الله:
رأيت في منامي كأن ظعن السبايا قد سار من كربلاء فاجتاز على جثث القتلى، فرأيت النسوة يتساقطن من على ظهر النياق على تلك الجثث المقطعة و كل واحدة تندب فقيدها و ترثيه، و حفظت بعضاً من تلك الكلمات فاستيقظت و على إثر ذلك نظمت:
حالة الـﮕـشره يوم مرّوا بالمذابـــيح كلهم عرايا و السّتر من سافي الرّيح
و امن الحزن زينب تـﮕـوم و نوبٍ اتطيح و تصيح شاب الرّاس من عظم الرزيّه
و لقد حدثني أخي العزيز عباس (ابن المرحوم الأصغر) الذي كان ينام إلى جوار والده آخر سنين عمره فيقول: لطالما استيقظت في أنصاف الليالي كي أرى والدي قد هجر لذيذ الكرى مجاوراً لمصباحه الصغير مرتدياً نظارته السوداء ماسكاً لقلمه الأخضر السائل، يخط بمداده في ظلمة الليل طريق الدمعة الساكبة و مفتاح الصرخة المرحومة، و لربما سبق مدادُ عينه مدادَ قلمه.. و هو القائل:
يَشبل حسين يا مهجة ﮔـللب ليلـــى ترى الخادم الخاطي ما سكن ليله
نظمت و دمعي ابخدّي جرى سيلــــه انتهت و الثّانيه يا شهم تهدى لك
و قال في الموشح:
نظمت و منتظم ﮔـــــــــللبي ابولاكم و الدّمع يجري
فرض و نفل عندي صـــــــــ ـار حتّى ينـﮕـضي عمري
جمر صبيت من ﮔـــــــــللبي المصايبكم و انا الجمري
و خادمكم مدى دهــــــــره يبـﭽـي و يسحب العبره
عسى مـﮕـبول يا زهـــــــرا و عساه امثبّت ايمانه
و إذا تصفحت ديوانه لمست مشاعر مفعمة بالود و الحب و الهيام نحو آل البيت عليهم السلام و خصوصاً الحسين عليه السلام و طالما عوّدنا تذييل بعض القصائد بعرض آماله و حوائجه مما يعكس العلاقة الخاصة التي تربطه بهم عليهم السلام.
- قوة شعره: كان على ركن وثيق و أساس متين من القوة في رقة الخيال و الجزالة و انتقاء الكلمات الشجية، و يراعي مقتضى الحال في عرضه للمقامات، و قد عوّدنا أن يركز في الصورة التي يرسمها من غير تشتيت للقارئ، فإذا قرأت له أبيات الشجاعة شعرت بروح وثابة و ملامح غاضبة تنثر الرعب، و مثلت أمامك معمعة و قعقعة و زمجرة، و ذلك مثل قوله المشهور في وصف حملات سيدنا العباس بن علي عليهما السلام في قصيدة مطلعها:
حدّر ﮔـمر هاشم على جيش العدا و صال رمحه المنيّه و صارمه بتّار لا جال
و إذا ما طالعت أبيات المصيبة تجد مهجة مذابة بأنين الأسى و فؤاداً مقروحاً بلوعة الشجا و كأنه رأى تلك المواقف رأي عين أو تجرعها غصة بعد غصة، فمن ذلك قوله ناظماً هجوم الدار و حديث الباب:
وﮔـفت البضعه داخل الحجرة بلا خمار تنده اشْجُرمتنا شعلتوا بابنا ابنار
مَيناسب احـﭽـي ويالغرب دنهض يّكرّار عجّل ترا ايهجمون ما بيهم امروّه
ما جاوب الكرّار بس تجري دموعه و فتحوا الباب و من ورا الباب الوديعه
و إذا ما رأيت أبيات الخيال و ألسنة الحال ألفيتها و كأنها حقيقة قد قيلت أو حدثت فعلاً بل حَسبت أنه ليس هناك ثمة كلمات أُخرى جديرة أن تحل محلها، و هذا لعمرك تجسيد الحدث الذي يُحلق بك في سماء من الحزن و الحسرة، فيقتنص مواطن العطف و الرقة لتستدر الدموع بحسن تخلص و لطيف سبك بديعين، و بتصوير يخترق موازين اللفظ ليقتحم لب المعاني، متصرفاً بلا واسطة بالقلوب.. ذلك كقوله لله دره و عليه أجره في محاورة خيالية يصورها لنا بين زينب الكبرى و الحسين عليهما السلام:
ودّي أوصل مصرعك و انجــدل وّياك لكن اشبيدي لازمه اذيالي يتاماك
لو يـﮕدر السجّاد ينهض ﭼـان جيناك خدّك نوسده و بالدّمع نغْسل الطّبرات
أو كقوله في تصويره للزهراء و هي راجعة بعلي بعد أن أخرجوه ملبباً حيث يجسد لنا في مطلع البيت الأنفة و الشموخ في شخص الزهراء، ثم يأخذ المستمع بغتة فيطرق الجانب المأساوي طرقاً ساحراً يهز فيه المشاعر في عجز البيت نفسه، و هو قوله:
ابشبلينها ردّت و ليث الغاب معهـا و رجعت مثل ما ترجع اللبوه ابسبعها
و إيدٍ على اللطمه و إيد اعلى ضلعها و المرتضى ينشّف ادموع الحسن و حسين
- لسانه الجامع: فلم تكن الألفاظ العامية التي تداولها شاعرنا في شعره الدارج موقوفة على بيئة من تلك البيئات التي اجتازها، بل تمكن من صياغة شعره بلهجة جامعة، مزجاً بين لهجات الخليج و العراق و عربستان، و هذه قوة مشهودة له موقوفة عليه و لهذا تجد شعره سلساً متداولاً على جميع الألسن، يحفظه جميع الخطباء و لا يستنكر السامعون من ألفاظه.
- سلاسة الأوزان: لقد تعوّدنا أن نحفظ شعره بلا أية معاناة، و بنظرة خاطفة أولى لسهولة لفظها من جهة، و جزالة معانيها من جهة أُخرى، و فوق هذا و ذاك خفة الأوزان و لطف البحور الشعرية المستخدمة، فقد اعتادت الأسماع و ألفت الوزن الفائزي الذي تعاطاه المرحوم الملا علي بن فايز، و كذلك هي بالنسبة إلى الموشح الذي تعاطاه كبار شعراء العراق كالشرع و غيره، و قد عشقت القلوب فن الأبوذيات البديع.
لقد تعاطى شاعرنا كل ذلك و أكثر فيه، و له ابتكارات و تجديدات كثيرة في هذا المجال، فقد ابتكر التعاطي بالوزن الطويل و أكثر فيه، و فيه من عيون شعره الشيء الكثير، كما ابتكر الكثير من أوزان و فنون اللطميّات الشجية و أبيات المواكب.
- تميز في شخصه: لا يخالفني المنصف إذا ادعيت أن الشعر يحكي شاعره، و لا شك في أن روح الشاعر مقروءة معكوسة على صفحات شعره، ينتقل القارئ من كلماته إلى باطن صائغها الناصع العف النقي، و دق كان شاعرنا شاعراً بكل أبعاد هذه الكلمة، بما تحتوي من رهافة الحس و شرف الطباع و أخلاق الشعراء، فإذا راح يشدو بأبياته على المنبر شعرت بروحه تفيض عليك بإلهام الحب و الود لآل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، و قطعت بانطواء هذا شعور على سر في شخصه و نفسه، فالراثي المتدين المخلص له هيمنة و قدرة على استدرار الدموع، و يصدق ذلك البرهان و الوجدان.
خطابته و سفراته:
ابتدأ شاعرنا مسيرته المنبرية مستقلاً عام 1330هـ، و كانت انطلاقته في المحمرة، زاول فيها الخطابة لمدة ثماني سنين، ثم زاولها في البحرين و في أطرافها و نواحيها كالقطيف و الإحساء و الكويت، و سافر إلى الهند و إيران، و تشرف بالحج إلى بيت الله الحرام عام 1367هـ، و كان جل قراءته أيام المحرم في البناية الحسينية الموسومة بحسينية الحاج أحمد بن ناصر، و كان بدء خطابته فيها عام 1346هـ، و المأتم يعرف اليوم باسم (مأتم بن زبر).
و كان متميزاً في أدائه المنبري، يدفعه إلى التميز إخلاصه في الخدمة، فكان يواكب الزمن في أسلوبه و طرحه، فهو بحق مجدد المنبر الحسيني على مستوى الخليج، و لا يكاد يفارق النهج الذي رسمه أهل البيت عليهم السلام لرسالة المنبر، فإذا استمعت إليه تشعر أن بغيته الأولى و الأخيرة استدرار الدموع و الإنشاد رغم تناوله المواضيع التاريخية و العلمية المختلفة، فإنه يعرضها بكيفية يمهد فيها إلى الرثاء، فهو لا شك خطيب مثالي مقبول عند آل محمد صلى الله عليه و آله و سلم.
و كان رحمه الله –على رغم مكانته و فضله- لا يترفع عن الحضور في مجالس الصغار الخطباء أو المبتدئين منهم تواضعاً منه و علواً في نفسه، و كان يقول إذا قيل له في ذلك: لا يخلو حضوري من فائدة، إما أن أكتسب علماً، أو أرى مواطن الأخطاء فأتجنبها.
و كانت له سفرات عديدة إلى مختلف العتبات المقدسة و البلدان الأخرى بما فيها دول الخليج، و في كل منها مريدوه المحتفون به، ففي عام 1386هـ الموافق 1966م تقريباً تشرف بزيارة أمير المؤمنين عليه السلام في النجف الأشرف و احتفى به شعراؤها، و عقد له الشاعر المرحوم السيد حسن السيد داوود النجفي مجلساً ليتعرف عليه الشعراء عن قرب، فقد نظموا قطعاً و أبوذيات شعرية للترحيب بشاعرنا و بيان فضله، و كان ذلك في يوم عيد الغدير الأغر.
فقال الشاعر الشيخ عبد علي:
حرت أطرق اليا لفظه يـــــمعنا لفينا للشرف كلنا يمعنا
الكمال و أهل معرفته يـــــمعنا بعطيه و الولايه الحيدريه
و قال الشيخ عبد الأمير النجار:
و حـﮓ موسى النبي و هارون و الياس ابضريحك أشم ريح الورد و الياس
يَحيدر ما ﮔـطعت الأمل و اليــاس ﮔـصدتك رادتي اتوفـﮓ عطيه
و قال إبراهيم أو شبع:
يملاّ ما أظن للخصم تمشــــــي و ﮔـلت بيده من الخيرات تمشي
الروح اوياك للبحرين تمشـــــي و يظل جسمي لعد راعي الحمية
و له أيضاً:
ألكد عالخصم ابوعظ بـــــحران مثل زيت اليفور ابجدر بحران
عونه اللي سكن وياك بحـــــرين و يعيش اوياك يا ملا عطيه
و قال الشاعر الشيخ ناظم منظور الكربلائي:
اجتماع الشرف لهل الشرف جـــنه لسان الشعر لهل الشعر جنه
ثلاثه من الهدايا اليوم جــــــنه النعم و الدين و زيارة عطيه
و له أيضاً:
عطيه من عطا الباري هــــــدانا ابجمريه عذب معنى و هدانا
الطريق الرشد أرشدنا و هــــدانا و المنظور أخذ منه سجيه
و قال الشاعر السيد حسن داوود:
طيب روح كل طيب و عـــــمره ابسعاده و المحل وسعه و عمره
حجه زيارتك حيـــــــــدر و عمره زيارتنا لعد ملا عطيه
و له أيضاً:
ازار الشوﮒ بعد او ﮔـرب زرنـــا و صفا زور الليوث اليوم زرنا
ابولاية حيدر الكرار زرنـــــــا النفل ملا عطيه ابهالمسيه
و قال الشاعر الشيخ حسين الحبيب:
كل طيب على الطيبه وفـﮕــــته و صحيت الكرى بنظمك وفـﮕـته
عطيه الواجب اديته وفـﮕـــــته وفـﮕـت اهل الوفا بكل معنويه
فأجابهم شاعرنا ببيت من الموّال قال فيه:
روح الأدب حلكَت و احنت عليه ابدور
قامت التركيز غايات المعاني ابدور
أهدت ثنا ذاتها الما ايثمّنوه ابدور
وياك شحـﭽـي يَبن خير البرايا حسن
روحي و روحك طبق كاس الموده حسن
عاينت مجلس موده مثل هذا حسن
لو فلك ندوة ندامى و جمع بيها ابدور
فقام الشيخ كاظم المنظور و قبل شاعرنا على فمه لإبداعه فيما ارتجل.
إخوته رحمه الله:
لشاعرنا من الإخوة ثلاثة و هم (حسن، و حاج حسين، و ملا إبراهيم)
حسن: أصغر من شاعرنا بثلاث سنين توفي شاباً له من العمر 32 سنة، و قبل وفاته تزوج ببنت عمه و أجنبت له ولداً توفي بعده بقليل.
الحاج حسين: ولد الحاج حسين في القطعة في منطقة يقال لها الجبل سنة 1330هـ في كَبَر نصفه من السعف كما يروي شاعرنا في مذكراته.
و حاج حسين طيب النفس، سهل المعيشة، خفيف الطلعة، لطيف المجالسة، حسن المعاشرة، لا يفقد مُجالسه الطُرفة و روح الدعابة، و مع ذلك فهو حاد المزاج سريع الغضب شديدة، بيد أن مزاجه الحاد و غضبه الشديد لا يضفي على جليسه جواً من الكآبة أو الكدر بل يُلقي برفاقه في غيابة الندرة و الفكاهة.. و على الرغم من أن الزمان قد رسم بريشته على صفحة وجهه قسمات الشدّة و القسوة إلا أنه في واقعه يطوي بين جنبيه قلباً مرهفاً و مفعماً بالأحاسيس الرقيقة، و لقد تأثر الحاج حسين لفقد أخيه غاية الأثر و لطالما تأوّه قائلاً: لقد أيتمني عطية.
و من طريف أموره أنه يخاف الموت و الموتى أو ذكر القبور و ما يتعلق بها، و له في ذلك قضايا تُضحك الثكلى، إلا أن خوفه من الموت ما كان لينجيه منه، فقد وافاه الأجل عام 1990م وخلّف خلفه ثمانية ذكور و أربع إناث، و لقد أخذ على عاتقه وظيفة الأذان للصلاة حتى آخر عمره، رحمه الله تعالى و جمع بينه و بين من يتولاه في آخرته.
ملا إبراهيم:
ولد بالقطعة أيضاً سنة 1333هـ، فهو أصغر من أخي الحاج حسين بثلاث سنين و أصغر من شاعرنا بـ16 سنة، و هو اليوم كبير الأسرة "آل عبد الرسول" أطال الله في عمره. و ملا إبراهيم جميل الوجه أشبه الناس بشاعرنا، طيب العشرة، تعلوه السكينة و الوقار، هادئ في جميع أحواله، لا يرتفع له صوت، و لا تخلو جلساته من الطرف الأدبية و النوادر المفيدة.. و قد امتهن الخطابة في مقتبل عمره ثم طرق أبواباً أُُخرى. يعشق الأدب و يقول جيد الشعر و له أشعار كثيرة، منها أبيات قاله على قبر شاعرنا في أول عيد يمر بعد رحيله و افتقاده، قال فيه:
عطية هذا اليوم يوم مســــــرة فجئنا نهنيك السعادة في اللحدِ
فإن لم تصافحنا يداك فإنــــــها لمشغولة عنّا و لم يك عن صدِ
و لم يك عن كره إلينا و إنـــــما تصافحك الولدان في جنة الخلدِ
أولاده:
لم يحالفني الحظ في لقاء شاعرنا المرحوم، و لكنني عاشرت أولاده كلهم عن كثب قريب فألفيتهم يحكونه فضلاً و علما و خلقاً و تواضعاً، و يتبادلون المكارم و جميل الطباع فيما بينهم، و شهدت عامة الناس توقرهم و تجلّهم، و هم ثمانية، فإذا قدمت الأكبر نازلاً، فهم:
- الملا يوسف: ولد ليلة النصف من شعبان سنة 1336هـ، و هو خطيب مفوّه و نبعه علم فوّارة، حفّاظ راوية، و محدث جليل، على أساس متين في اللغة و الأدب، و له باع مستطيل في التاريخ و الشعر، إذا جالسته لا تعدم النادرة و الطرفة و الفائدة و الحكمة، تشعر أنه خطيب في كل حالاته، و هو مع هذا كله متواضع لطيف المحضر خفيف الظل، و كنت كثيراً ما أجالسه في غرفة ببستانه يستقبل فيها الوجهاء و الخطباء و العلماء، و يتبادل معهم الطرفة و اللطيفة، و قليلاً ما كنت أفارقه من دون فائدة أو استماع رواية.
إذا حادثك في الرواية تحسبه يصنف كتاباً حسن التبويب و الربط و التعليق في آثار أهل البيت عليهم السلام، فقليلاً ما يشرح الرواية بغير رواية أُخرى، و قد انتهى إلى سمعي أن العلامة المرحوم السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب قال عنه: إنه أفضل خطيب في العالم الإسلامي لأنه لا يتحدث إلا بالراوية.
و قد تأثر خطابة بأبيه المرحوم، و بخطيب الخليج المرحوم الملا أحمد بن رمل، و لابن رمل قصيدة في زفافه تنم عن ود متبادل، و قد تعاطى الخطابة في كثير من البلدان.
توفي ملا يوسف في 18/ صفر/ 1419هـ، الموافق 13/ 6/ 1998م و قد شيعه جمع غفير في مراسيم مهيبة، و دفن إلى جانب والده في مقبرة بني جمرة.
- الملا محمد صالح: ولد في قرية بني جمرة سنة 1353هـ، و تعلم القرآن الكريم و ختمه عند الملا قاسم نجم الجمري، ثم عند والدته، و لما انتهى من الدراسة الابتدائية في مدرسة البديع أخذ والده يصطحبه معه في المآتم الحسينية (صانعاً) له و عمره 11 سنة حتى استقل في القراءة عام 1958م.. و كان أول مجالسه في قرية (بوري) في شهر رمضان ثم في محرم و صفر في قرية (الديه).
و هو خطيب منطقي، واسع الاطلاع، مستمعه يستمتع بحسن عرضه و سبكه للحديث و تنقّله بين نقاط البحث، و قد ضم إلى دراسته الدينية فقهاً و أصولاً، غوراً ثقافياً بديعاً في العلوم الحديثة، فهو متابع جيد للكتب الجديدة و المقالات المهمة ذات الصلة بالعلوم و الآداب.
هذا مع كونه شاعراً متمكناً لطيف الذوق فيه، طالعت بعض شعره فألفيته سلساً قوياً، و له لامية غديرية غّراء تشتمل على فضائل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام و يبدو أنها من عيون شعره، و له شرح عليها ينم عن فضل و نظر و تتبع، قد تناول فيه مواضيع تحقيقيه هامة.
- الملا محمد رضا: و هو خطيب جيد السبك، منسق العرض، إذا استمعت إليه خطيباً شعرت بوسعه المبذول في استقصاء موارد البحث و لمست اطلاعه الأكاديمي الممزوج بالغور الديني، و رأيت اختياره البديع لمحفوظاته الشعرية فصيحة و دارجة، كثير البحث و التقصي و الكتابة، و له صوت رخيم جذاب، و مع هذا فهو ناءٍ بنفسه عن الأضواء قليل القراءة الحسينية بالنسبة إلى غيره. أخذ الخطابة عن أبيه و تأثر به، و لأبيه المرحوم أشرطة قديمة مسجله في بعض أيام المحرم و فيها صوته اللطيف الشاب يقرأ قصيدة قديمة.
- الشيخ عبد المحسن: و هو خطيب مبدع، يجمع بين الأسلوب الجذاب و الطرح المميز و انتقاء اللفظ الرنان، و الرثاء الشجي بالطرق الخاصة به غالباً، واسع الأفق و النظر، تلمّذ في النجف الأشرف على يد أساتذتها فترة غير قليلة، ثم اتجه بغرض تحصيل العلم إلى مدينة قم المقدسة و بقي فيها شيئاً يسيراً من الزمن، و أتم دراسته في البحرين فقهاً و أصولاً، و يخطر ببالي أنه كان يحضر عند العلامة المرحوم السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب.
و هو شاعر مجيد مكثر، فصيحاً و دارجاً، له قصائد تنم عن ذوق بديع و حسن شاعر، و له منظومة فقهية نادرة على كتاب شرائع الإسلام، و قد تعاطى الخطابة في أغلب دول الخليج و له مريدوه في كل منها.
و إذا ما سلطت الضوء على وجه شخصيته الآخر شهدته سهلاً، حلو المحضر، صاحبته سفراً مراراً فوجدته خفيف الظل، لا تفارقه الطرفة و البسمة إلا نادراً، و غالباً ما كنت أقوم الفجر على صوت تلاوته للقرآن.
و قد اعتنى الشيخ عبد المحسن بتراث أبيه كثيراً، و اهتم بتركته الفكرية، و حافظ على مذكراته من التلف، و تتبع قصاصات أوراقه و سواقط أبياته، و كان له الفضل في إضافة كثير من القصائد و الأبيات، و قد استعنت في كتابة هذه المقدمة في كل ما يخص شاعرنا بترجمة راقية كتبها بقلمه في أحوال أبيه، لتظهر المقدمة وافية بشارد ما كتب عن شاعرنا الراحل و الوارد.
هذا.. و له قصيدة رائعة في رثاء المرحمة أمه التي وافتها المنية بينما كان بعيداً عنها بحكم الظروف السياسية مؤخراً في البحرين، و هذه مختارات رقيقة من أبياتها:
أيا دار ردي أين جامعة الشمــــلِ و أين استقلت عن جوارك بالرحلِ
متى ظعنت يا دار عنك و غـــادرت منازلها و استوحشت دوحة الأهلِ
أيا دار ردي كيف كان وداعــــها و كيف سراها بالنهار أو الليلِ
متى رحلت أين استقر بها النــــوى فألقت عصاها بعد مزدحم النقلِ
أيا دار ردّي إن أمي قـد جفـــت مقامي و ما كانت لتجفوه من قبلِ
أيا دار أمي ما أتت لزيارتــــــي و يا صاح ما هذا لعمرك بالسهلِ
و قد طاف بي في عالم النوم طائـــف و ما أنا من أهل التطير و الجهلِ
و كادت على نفسي تسيطر حالـــة فأعلنت هيهات التطير من مثلي
فقابلني يوم الزيارة عزوتــــــي فلم أرها فانشل فكري من ذهلِ
و قلبت طرفي في الوجوه رأيت مــن تصنعها تبدو موحدة الشكلِ
أسير يراني الناس مرتعش الخطــــى على الأرض حتى كدت تعثر بي رجلي
أخاطب نفسي يا ترى ما أعاقهــــا و تحت ضلوعي مرجل من لظى يغلي
أتهجرني و هي الحنون عرفتهـــــا و أعلمها في قمة الحب و النبلِ
فلا بد من أمر يشق ســــــماعه عليّ و تشتد المشقة في النقلِ
- جعفر: كانت له محاولات خطابية مع والده في مقتبل عمره إلا أن صوته لم يسعفه فتوقف.
- عبد الكريم: هو رادود حسيني لطيف الصوت يختار أشجى الطرق و أجودها، و كان كثيراً ما يقرأ من شعر الجمرات أو نظيره.
- حسين: صاحب ظل خفيف كسمّيه و عمه حسين، و لم يجرب حظه في الخطابة، و كما يبدو لي أن صوته لا يعينه على ذلك مثل أخيه جعفر، و هو موظف في مجال إنساني و ينتفع منه المؤمنون كثيراً.
- عباس: و هو أصغر أخوته، يخوض بداية قوية في طريق المنبر الحسيني تنم عن مستقبل زاهر مشرق، كما له حصيلة علمية دينية جيدة، و صدرت له كتابات و تحقيقات بعضها مطبوع. و قد تشاطرنا معاُ العمل و الجهد في تحقيق أسرار الشهادة للفاضل الدربندي حتى ظهر في ثلاثة مجلداتهم و هو أضخم مقتل لسيد الشهداء طبع حتى الآن، و كذلك الحال بيننا في شرح شافية الأمير أبي فراس الحمداني، و هكذا فقد أشركني معه في إعداد ديوان أبيه و التقديم له، و له كتابات و مقالات في مواضيع متنوعة، كما له شعر قليل جيد، و صوته جذاب جميل، عاشرتها سنين كان فيها مستجمعاً خصال الفضل و الشرف، و إن الفتى سرّ أبيه.
و لقد رأي بعض المؤمنين شاعرنا في الرؤيا بعد وفاته، فحفظ منه شعراً يعدد فيه أبناءه على التوالي، و يؤكد اعتزازه بهم، و يوصي أخاه إبراهيم برعايتهم، إلا أن الأبيات تخلو من ذكر الابن الأكبر (ملا يوسف) مما يدل على أن الراوي لم يحالفه الحظ في حفظ الأبيات كاملة و هي:
لا تقل مات عطــــــــــيه و الرضا ما زال حيا
محسن ثم كريـــــــــــم صالح ذاك المُحيا
جعفر ثم حسيـــــــــــنِ و أبو الفضل سميّا
قل لإبراهيم يرعـــــــــى فتيتي بعدي عطيه
بناته:
لشاعرنا أربع بنات، ثلاث منهم يندبن الحسين و ينظمن المرثيات فيه، و هن:
- ثريا (أم فاضل) و من أبياتها:
يَبني خل الكربـــــلا الحادي يعرج بالظعن
بنظر الشيخ العشيـــرة ابياكتر جسمه اندفن
أرد اخبره من بعد عينــه اشفعل بينا الزمن
و اخبره ابلا ظلال خلوني اعلى ناﮔـه امهزله
يالها ساعه عصيــــبة حين وصلوا النينوى
من ظهر لجمال خـــرّوا اعلى الثرى كلهم سوى
و نادوا ﮔـبر حسين وينـه و ﮔـبر شيّال اللوى
و ظلوا ايشموا الــثرى و الكل دمعه يهمله
اشحالها ذيـﭻ الوديــعه يوم لاح الها الـﮕبر
اتصيح يا مظلوم دتلـﮕـاني جيت امن السفر
و الهدايا اللي جبتـــها يا اخوتي ذل و قهر
بيش ابدّي من مصــاب الحادي جسمي نحله
- ملكة (أم محمد): و من أبياتها التي يترنم بها رواديد المواكب هذه القصيدة:
أرد انشدك رد علي يا ماي
اشسوى العطش ابجملة الرضعان
يا ماي قلي اشجرمة اطفالي
يا ماي إنت ﮔـصدي و امالي
يا ماي تدري بالطفل غالي
صديت عني و صرت للعدوان
اشسوى العطش ابجملة الرضعان
يا نهر وينه مايك المسـﭽـوب
يا ماي تسـﮕـي الغصن و عذروب
يا ماي عطشانه الدرب يا صوب
و ﮔـلليـبـي جمره يشبه النيـران
اشسوى العطش ابجملة الرضعان
يا ماي لي وياك كم اعتاب
يا ماي ماتو بالعطش كم شاب
يا ماي و اطفالي الهوت بتراب
يا ماي كم طفل ﮔـضى لهفان
اشسوى العطش ابجملة الرضعان
يا ماي كلمن يشربك يا ماي
يا ماي لو روحي تصير الماي
ضحيت بيها و ترتوي ولياي
و لا شوف عبد الله يون عطشان
اشسوى العطش ابجملة الرضعان
- فاطمة: و من أبياتها:
زينب حايره و اتهل دمعتــــها اتخاف ابهالأرض لتروح اخوتها
زينب خايفه و تهل دمع العيـــن عليمن هالجمع ملتم يخويه حسين
هالجيمان حاطتنا دﮔـلي امنيــن انصار اوياك لو عدوان جيتها
و أنصارك يَخويه اشلون نيتهــم اويا العدوان لو ويانا نخوتهم
بيوم الحرب عالعدوان هجمتهــم يَبو السجاد دخبرني ابنيتها
ﮔـلها حسين يَختي لا تشعبيــني فداﭺ الروح بسـﭻ لا تفجعيني
انصاري احرار كلهم ما يخونــوني امشي اوياي شوفي اشلون شيمتها
إجت وياه للأنصار مذعــــوره و لن اسيوفهم بالكون مشهورة
و من شافت عزمهم بـﮕـت مسروره و لعند حسين بان اسرور فرحتها
و حبيب الليث يتبختر اببتـــاره يليوث الحمية باﭼـر الغاره
ودايعكم حريم حسين يَنصـــاره ليكون بحماكم تخر دمعتها
طلعت من خيمهم ﮔـصدت العباس و بتاره ابيمينه صاحب النوماس
و من حوله الهواشم كاشفين الـراس و بريـﮓ سيوفهم ساطع ابوجنها
زال الخوف منها عزيزة الكــرار من شافت حماها و شافت الأنصار
الليلة بخيمهم تسطع الأنــــوار باﭼـر يالمحب اشلون حالته
باﭼر تنذبح شبان بالحومـــــة و العباس بالمسناة له نومه
و اما حسين طايح تنـزف ادمومـه بفرد ساعه انذبحت كل أخوتها
- و أخيراً آية (أم حسين).
وفاته:
عندما مرض شاعرنا مرضه الذي توفي فيه عقد عزمه على السفر للعلاج، و قد استخار الله على المضي للهند فخرجت الخيرة بالنهي، ثم استخار على مصر فجاءت بالإيجاب، و كان رحمه الله قد شغله حاله عن نظم شيء في حق علي الأكبر، فرأى خطيبنا في موضع قبره الآن علي بن الحسين في منامه يقول له: إن والدي الحسين يبلغك السلام، فاستيقظ ملا عطية و قد أوّلها بأن الأكبر يطلب منه لطمية في شانه، فنظم:
انـﮕـطع ﮔـللبي يَبويه من شفت حالتك امعلّـﮓ بالفرس متـﮕـطّعه اوصالك
و ظن الملا بأنه قد بلغ مراد الأكبر عليه السلام، إلا أنه رآه مرة ثانية في نفس المكان يقول له العبارة نفسها: إن والدي الحسين يبلغك السلام، فاستيقظ و نظم:
محتضن يبني مهرتـــــك و الـﮕـوم كلها حاطتك
تاليـها متوزّع طحــــت تشعب اﮔـلليبي ابونتك
ثم رآه مرة ثالثة في الموضع نفسه يقول له: إن والدي الحسين يبلغك السلام و يقول لك أنه يريد أن يراك في هند. فاستيقظ رحمه الله من نومه عازماً على السفر لبلاد الهند، و هناك توجه لسيد الشهداء و أنشده هذه الأبيات:
إجيت الهند ﮔـــاصد لك وعاني أﮔـاسي من الألم شدّه و أعاني
ترى الغيرك مهو ﮔــصدي وعاني الهند و كربلا عندك سويهّ
و الجدير بالذكر أن شاعرنا قد تحسن حاله و قد تماثل للشفاء، فعقد و من معه العزم على الرجوع للبحرين، و لكن فجأة انخفض ضغط الدم لديه و كانت في القاضية، ليعرف الجميع أن الحسين اشتاق خادمه المخلص فأراده إلى جواره و ما كان شيء ليحول دون هذه الإرادة.
فتوفي شاعرنا على فراشه الذي كان ينظم عليه آخر أبيات الجمرات إلى ما قبل ساعة احتضاره –كما يروي فضيلة الشيخ عبد الأمير الجمري عافاه الله- بل توفي على منبره الذي قرأ عليه مجلسه الأخير قبل موته بساعات.
يقول ابنه عبد الكريم (و هو أحد مرافقيه): جلس على فراشه الذي توفي عليه في آخر يوم من حياته و كان يوم الجمعة، فأراد منا جميعاً نحن المرافقين الاستماع إليه و قال لنا: اليوم يُعقد مجلسي الحسيني الأسبوعي في داري بالبحرين، و أنا أعقده هنا في الهند. فقرأ مجلساً مختصراً قرأ فيه مصيبة الزهراء و راح يُنشد قصيدته:
أم الحسن طلعت تدافع عن ابو حسين املبب يـﮕـودونه و بس ايدير بالعين
و هكذا فقد شاء الله تعالى أن يُعقد مجلس سيد الشهداء في مشفى بأرض الهند على يد شيخ المنابر و أستاذ الخطباء و الشعراء، لتُطوى به صفحة صاحب الجمرات الذي نذر عمره لخدمة سيد الشهداء (صلوات الله عليه) مصدّقاً قوله:
إني سأظل ما مشى ظلي على وجه الأرض مستغل الفرصة متى سمع لي بها الزمان، أملأها خدمة لأهل بيت النبوة، و بنفس سخية متشرفة و بكل ما أوتيت من إيمان بأن ما أقدمه من بضاعة مزجاة يكون في سبيل سعادتي في الدنيا و نجاتي بيوم الآخرة.. و بهذه النفس و بهذا الإيمان سأدأب محلقاً بأجنحة الشوق إلى أجواء الحب مقتنصاً جمرات الود في القوافي الشعرية من هذا اللون، مرسلاً بها إلى القلوب الوالهة بحب أهل البيت من شيعتهم <من مقدمته على الجزء الرابع من الجمرات>.
لقد طوت الأقدار صفحة شاعرنا و أجابت روحه نداء باريها لتنعم بجوار سادته و أوليائه، و ذلك يوم الجمعة ليلة السبت في الثلاثين من شهر شوال لعام 1401هـ في بومباي بالهند في رحلة علاجية، و دوّى خبر وفاته في الأقطار، و هرع المحبون و العلماء و الأدباء للتعزية و المواساة و إظهار الحزن و الحسرة على غياب طود من أطواد المنبر في بلاد الخليج، فأقيمت له مجالس التأبين و ألقيت لأجله الخطب الجليلة و الكلمات الساخنة و المراثي الحزينة، و شارك في رثائه من قريب و بعيد جملة كبيرة من الفضلاء و الشعراء.