ابن المقرّب العيوني
علي بن المقرّب العيوني شاعر من أهل الأحساء، توفي عام 630 هـ (1232م)، وهو من أواخر من يعرف من الشعراء المختصّين بنظم الشعر الفصيح بين أهل الجزيرة العربية قبل العصر الحديث. يرجع بنسبه إلى العيونيين من بني عبدالقيس، الذين حكموا الأحساء في تلك الفترة بعد انتزاعها من القرامطة. وهو شاعر الدولة العيونية، ويعتبر ديوانه والشروحات التي أرفقت به من أهم المصادر حول تاريخ تلك الدولة.
بعض ماذكر المؤرخون عنه
جاء في كتاب الأعلام تأليف خير الدين الزركلي - ج 5 - ص 24
ابن المقرب العيوني (572 هـ - 629 هـ = 1176 - 1232م)
علي بن المقرب بن منصور بن المقرب ابن الحسن بن عزيز ضبار الربعي العيوني، جمال الدين، أبو عبد الله:
شاعر مجيد، من بيت إمارة. نسبته إلى العيون (موضع بالبحرين) وهو من أهل الأحساء (غربي الخليج الفارسي) اضطهده أميرها "أبو المنصور علي بن عبد الله بن علي" وكان من أقاربه، فأخذ أمواله، وسجنه مدة. ثم أفرج عنه، فأقام على مضض. رحل إلى العراق، فمكث في بغداد أشهرا. وعاد فنزل في "هجر" ثم في "القطيف" واستقر ثانية في بلده "الأحساء" محاولا استرداد أمواله وأملاكه، ولم يفلح. وزار الموصل سنة 617 هـ، للقاء الملك الأشرف ابن العادل، فلما وصل إليها كان الأشرف قد برحها لمحاربة الإفرنج في دمياط. واجتمع به في الموصل ياقوت الحموي، وروى عنه بيتين من شعره، وذكر أنه "مدح بالموصل بدر الدين - لؤلؤا - وغيره من الأعيان، ونفق، فأرفدوه وأكرموه" وعاد بعد ذلك إلى البحرين، فتوفي بها أو ببلدة "طيوي" من عمان. له "ديوان شعر - ط". وللمعاصر عمران بن محمد العمران "ابن مقرب ، حياته وشعره - ط".
أما في كتاب أعيان الشيعة تأليف العلامة الاجل السيد محسن الأمين - ج 8 - ص 347 - 348
علي بن المقرب العيوني الأحسائي. قال الحافظ المنذري في كتابه التكملة لوفيات النقلة، نسخة دار الكتب المصرية في ذكر وفيات سنة 629 هـ ويقال: أبو الحسن علي بن المقرب بن منصور بن المقرب بن الحسن بن عزيز بن سنبار بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الربعي العيوني البحراني الأحسائي الشاعر بالبحرين ومولده سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بالأحساء من بلاد البحرين وقيل أنه توفي في رجب من هذه السنة 629. قدم بغداد وحدث بها شيئا من شعره ، كتب عنه غير واحد من الفضلاء ودخل الموصل أيضا ومدح ملكها وأقبل عليه أهل البلد أيضا وكان شاعرا مجيدا مليح الشعر وقيل أنه من بكر بن وائل انتهى ويقول الدكتور مصطفى جواد أنه أقام ببغداد سنة 610 وسنة 614 أو بعضها وسمع الأدباء والرواة عليه شعره أو كثيرا منه ويقول أن وفاته كانت في البحرين في المحرم سنة 621 كما أنه لقبه بكمال الدين أو موفق الدين أبو عبد الله اه.
وقال في كتاب ساحل الذهب الأسود: نظم الشعر في سن مبكرة وهو لا يتجاوز العاشرة من العمر وقضى أيام شبابه بالأحساء وكان طموحا للملك ، وقد شاهد بام عينه مدى التناحر والانشقاق في الأسرة العيونية ، وطمع كل أمير في الاستئثار بالملك حتى تجزأت بلاد البحرين إلى إمارات بين أسرته ، وظل كل أمير يثب على ابن عمه أو أخيه فيقاتله أو يقتله. وقد أصاب الشاعر شئ من هذه المحنة فصادر أبو المنصور أملاكه وسجنه ، ولما أطلق سراحه غادر الأحساء إلى بغداد، وحين تولى محمد بن ماجد عاد إلى مسقط رأسه فمدحه أملا منه في استرجاع أملاكه ، فماطل في وعده ووشى به بعض الحساد من جلساء الأمير ، فخاف الشاعر على نفسه فغادرها إلى القطيف ولبث فيها فترة مدح أميرها الفضل بن محمد دون جدوى، ثم عاد أخيرا إلى الأحساء أملا منه في اصلاح الوضع ، فلما يئس غادرها إلى الموصل حيث مدح أميرها بدر الدين بقصائد كما هجاه أخيرا حين لم يصل منه إلى غاياته ، وكان هذا الأمير مملوكا أرمنيا فمما قاله فيه:
تسلط بالحدباء عبد للؤمه .. بصير بلى عن كل مكرمة
عمي إذا أيقظته لفظة عربية .. إلى المجد قالت أرمنيته
نم له ديوان شعر مطبوع حذف منه طابعوه مدائحه ومراثيه في آل البيت . ذكره صاحب أنوار البدرين في ترجمة علماء الأحساء والقطيف والبحرين فقال في الباب الثالث في ترجمة علماء هجر وهي الأحساء : ومن أدبائها البلغاء وأمرائها النبلاء الأمير الأريب الأديب المهذب علي بن مقرب الأحسائي ينتهي نسبه إلى عبد الله بن علي بن إبراهيم العيوني الذي أزال دولة القرامطة من ربيعة كما تقدم ، وقال قبل ذلك لم تزل القرامطة في دولتهم ومنكراتهم حتى أباد الله دولتهم وأخمد صولتهم بظهور الأمير عبد الله بن علي العيوني الأحسائي آل إبراهيم من ربيعة جد الأمير علي بن مقرب الشاعر الأديب فبقي يغاديهم ويراوحهم بالحرب مدة سبع سنوات وهو في أربعمائة رجل وربما تزيد ميلا حتى ذهبت أيامهم وعفت رسومهم وأعوامهم وإلى ذلك يشير المترجم في بعض قصائده:
سل القرامط من شظى جماجمهم .. طرا وغادرهم بعد العلا خدما
من بعد أن جل بالبحرين شأنهم .. وأرجفوا الشام بالغارات والحرما
وما بنوا مسجدا لله نعلمه .. بل كلما وجدوه قائما
هدما وحرقوا عبد قيس في منازلها .. وغادروا الغر من ساداتها حمما
قال وكان المترجم أديبا فاضلا ذكيا أبيا شاعرا مصقعا من شعراء أهل البيت ومادحيهم المتجاهرين ذا النفس الأبية والأخلاق المرضية والشيم الرضية ، وقد كشف جامع ديوانه وشارحه كثيرا من أحواله بتفصيله واجماله وهو مطبوع وإن كان الظاهر أنه من المخالفين له في المذهب والمشاركين له في الأدب ولهذا حذف من أشعاره المراثي والمدائح وجرد منها ما هو الأولى بالذكر والصالح ويحتمل التقية في حقه وقد وقعت له على مراث كثيرة في الحسين ع منها المرثية في نظم مقتل الحسين ع ومنها قصائد من جملتها القصيدة المشهورة التي أولها :
من أي خطب فادح نتألم .. ولأي مرزية ننوح ونلطم
يقول في آخرها:
قمنا بسنتكم وحطنا دينكم .. بالسيف لا نألوا ولا نتبرم
وعلى المنابر صرحت خطباؤنا .. جهرا بكم وأنوف قوم ترغم
لا تسلموني يوم لا متأخر .. لي عن جزا عملي ولا متقدم
وفي نظمه الحماسة والامثال الجيدة مع البلاغة المستحسنة ، وقد أصابته من بني عمه نكبات أوجبت له تجشم الغربات وفي ديباجة شرح ديوانه شرح لما لقيه من زمانه وهو مبذول اه.
قال في اغترابه:
في كل أرض إذا يممتها وطن .. ما بين حر وبين الدار من نسب
إذا الديار تغشاك الهوان بها .. فخلها لضعيف العزم واغترب
وقال :
فان ساءتك أخلاق أهله .. فدعه فما يغضي على الضيم ماجد
فما هجر أم غذتك لبانها .. ولا الخط أن فارقتها لك والد
وقال :
خلياني من وطاء ووساد .. لا أرى النوم على شوك القتاد
واتركاني من أباطيل المنى .. فهي بحر ليس يروى منه صادي
انما تدرك غايات المنى .. بمسير أو طعان أو جلاد
ومن شعره ما عن مطلع البدور ومجمع البحور لصفي الدين أحمد بن صالح بن أبي الرجال :
يا واقفا بدمنة ومربع .. أبك على آل النبي أودع
يكفيك ما عاينت من مصابهم .. من أن تبكي طللا بلعلع
بحبهم قلت وتبكي غيرهم .. انك فيما قلته لمدعي
أ ما علمت أن إفراط الأسى .. عليهم علامة التشيع
أقوت مغانيهم فهن بالبكا .. أحق من وادي الغضا والأجرع
يا ليت شعري من أنوح منهم .. ومن له ينهل فيض أدمعي
أ للوصي حين في محرابه .. عمم بالسيف ولما يركع
أم للبتول فاطم إذ منعت .. عن ارثها الحق بأمر مجمع
أم للذي أودت به جعدتهم .. يومئذ بكأس سم منقع
وإن حزني لقتيل كربلاء .. ليس على طول المدى بمقلع
إذا ذكرت يومه تحدرت .. مدامعي بأربع فأربع
يا راكبا نحو العراق جرشعا .. تنمى لعبدي النجار جرشع
إذا بلغت نينوى فقف بها .. وقوف محزون الفؤاد موجع
والبس إذا بلغتها ثوب الأسى .. وكل ثوب للعزاء المفجع
فان فيها للهدى مصارعا .. هائلة بمثلها لم يسمع
واسفح بها دمعك لا متقيا .. في غربة ونح دواما واجزع
وكل دمع ضائع، سال على .. غير غريب المصطفى المضيع
لله يوم بالطفوف لم يدع .. لمسلم في العمر من مستمتع
يوم به اعتلت مصابيح الهدى .. لعارض من الضلال مفزع
يوم به لم يبق من دعامة .. لشد ركن الدين لم تضعضع
يوم به لم يبق قط مارن .. ومعطس للحق لم يجدع
يوم به لم تبق قط وصلة .. حقا لآل المصطفى لم تقطع
يوم به غودر سبط المصطفى .. للمرهفات والرماح الشرع
وحوله من صحبه كل فتى .. حامي الذمار بطل سميدع
لهفي لمولاي الشهيد ظاميا .. يذاد عن ماء الفرات المترع
لم يسمح القوم له بشربة .. حتى قضى بغلة لم تنقع
لهفي له ورأسه في ذابل .. كالبدر يزهو في أتم مطلع
لهفي لثغر السبط إذ يقرعه .. من لعصاة مجده لم يقرع
يا لهف نفسي لبنات أحمد .. بين عطاش في الفلا وجوع
يسقن في ذل السبا حواسرا .. إلى الشام فوق حسرى ظلع
يقدمهن الرأس في قناته .. هدية إلى الدعي ابن الدعي
ينذبن يا جداه لو رأيتنا .. نسلب كل معجر وبرقع
يحدو بنا حاد عنيف سيره .. لو قيل أربع ساعة لم يربع
يا آل طه أنتم وسيلتي .. إلى الاله واليكم مفزعي
واليتكم كيما أكونه عندكم .. تحت لواء الأمن يوم الفزع
وإن منعتم من يوالي غيركم .. أن يرد الحوض غدا لم أمنع
إليكم نفثة مصدور أتت .. من مصقع ندب وأي مصقع
مقربي عربي طبعه .. ونجره وليس بالمذرع
ينمى إلى البيت العتيق بل إلى .. أجل بيت في العلى وأرفع
عليكم صلى إلهي وسقى .. أجداثكم بطل غيث ممرع
-------------------------
كتاب: ابن المقرّب العيوني
للكاتب د. مكّي محمّد سرحان
مولده و نشأته
اسمه الكامل هو:جمال الدين أبو الحسن علي بن مقّرب بن منصور بن مقرّب بن غرير العيوني –هناك بعض الاضطراب الطفيف في سلسلة نسبه قد أوردها محقق (ديوان ابن المقرب) على ثلاث صفحات من مقدمة الشارح .. لذلك وجب التنويه فقط.
وُلِدَ علي ابن المقرب حوالي سنة 572 هـ، في بلدة مشهورة تدعى العيون بالأحساء، من المنطقة الشرقي للملكة العربية السعودية، و توفي حوالي سنة 630هـ -(أي أنه عاش أواخر القرن السادس و أوائل القرن السابع الهجري في الفترة التي تعرض لها العالم العربي و الإسلامي لأخطار عديدة أهمها الغزو الصليبي لفلسطين و مصر و الشام)- على حد تعبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، لمحات من الخليج العربي، الطبعة الأولى، ابريل 1970 ص29.
و عليه، فقد ولد الشاعر ابن المقرب في الإمارة العيونية، (بين بني عشيرته الأمراء العيونيين العرب الذين أجلوا القرامطة عن المنطقة و أقاموا بها حكماً عربياً لفترة تقارب القرنين) - على حد تعبير الدكتور الأنصاري - و من المعروف، (ان حدود إقليم الإمارة العيونية الحقيقية و الطبيعية، هي منطقة البحرين التي تمتد اصلاً من كاظمة شمال شرقي الجزيرة العربية (الكويت حالياً)، إلى بلاد العروض التي تشتمل على الأطراف الصحراوية المحاذية لقطر. و إن كانت مراكزها الرئيسية هي: هجر (الأحساء) و جزيرة أوال و القطيف، لأن هذه المناطق مناطق شبه استقرار، لاعتمادها على الزراعة و لتوافر المياه الجوفيه فيها.
و في شعر ابن المقرب - على حد تعبير الدكتور فضل ابن عمار العماري، في مؤلفة: ابن مقرب، و تاريخ الامارة العيونية في بلاد البحرين، الرياض، صفحة 23- توضيح لتلك الحدود الداخلية، مثل قوله ذاكراً رحيله على ناقته):
وَ خَطَّهَا الخَطَّ إرقَالاً وَ أَولِ قلىً .. أوَالَ لاَ نَادِماً و أهجُر قُرى هَجَرِ
و يستطرد الدكتور فضل العماري قوله: (فهنا تركيز على الخط الذي يشتمل على القطيف حتى حدود العقير الحالية، و أوال (الجزيرة التي اختصت في العصر الحديث باسم البحرين) و هَجَر. و لذلك نجد هذين الحدين الخط و الأحساء، هما اللذان يبرزان على مساحة الخارطة السياسية في شعره)، فيقول:
لاَ تُكثِرِي مِن مَقَالاَتٍ تَزِيدُ ضَنىً .. مَ الخَطُ امَّي وَلاَ وادِي الحَسَاءِ أَبِي
(غير ان ابن المقرب ظهر في الفترة التي ضعف خلالها الحكم العيوني و تعرَّض للمنافسات الداخلية و الفساد و للأطماع الخارجية)- كما يقول الدكتور الأنصاري- و كأنما أعده القدر لذلك اعداداً محكماً ملحوظاً، حين يستقبل صباه في مهد صراع العيونيين للوصول إلى سدة الحكم على الإمارة العيونية.. و أصغت أذنه المرهفة في بدء شبابه إلى ما كان يردّده الجمهور يومذاك من انقسام الإمارة بين آل الحسن و آل أبي المنصور.. فقد شبّ شاعرنا و ترعرع في أحضان هذا القلق النفسي، المتبرمة بما كان يكتف انشقاق رجال السلطة في هذه الإمارة.
(و من الناحية الحضارية، كان العصر الذي ظهر به ابن المقرب يمثل بداية عهد الانحطاط بالنسبة للحضارة العربية فلقد ضعف الحكم العباسي في بغداد و وقع تحت سيطرة الفرس و من بعدهم الأتراك السلاجقة و تعرّضت الدولة للتجزئة و التفكك، و توقف الإبداع الفلسفي و الفكري و بدأ التفكير يتقوقع في قوالب جامدة و يخضع بصورة تامة للتقليد و تقديس الماضي و اقتفاء أثره)- على حد تعبير الدكتور الأنصاري.
و من الطبيعي ان يكون لكل رائد في ميدان النضال عبقريته التي حباه الله بها، فهي سلاحه و قدره، فإذا كان المدفع سلاح الجندي، و المنبر ميدان الخطيب، فقد كان الشعر هو الأداة الفعالة و السلاح البتار، بل الميدان الذي وجد فيه الرائد ابن المقرب مكانه، إلى جانب الرواد في منطقة الخليج، من ظاهرة الخصب و الأصالة و الإبداع.
ظاهرة ابن المقرب الفريدة
نشأ ابن المقرب في بيئة علمية، و درج و استكمل نموه في بيئات و طبقات الانحلال السياسي و الاجتماعي لبلاده، فانفعل بها و استوحاها، فأوحت إليه، كما أسعفته موهبته أن يحظى برؤية أدبية فريده، لا مثيل لها عند أحد من أفراد عشيرته يومذاك.. و عليه كانت هذه البيئة التي نشأ فيها ابن المقرب، و شبّ و ترعرع في سماها، لها أثرها و تأثيرها العظيمان في العمل على تفتح برعم عبقريته الشعرية و ازدهارها يوماً بعد يوم.
في عصره تغلبت نزعة البيان البديع و المحسنات اللفظية في مجال الأدب، و أخذ الشعراء، آنذاك، (يقلدون الشعراء الأقدمين تقليداً حرفياً و يهتمون بشكليات الحياة و توافهها دون جوهرها و محتواها)- على حد تعبير الدكتور الأنصاري- لكنه تمرد عليهم و ركز على الجوهر و ترك التوافه. و تلك هي الناحية البارزة من شاعريته، و هي التي استهوت أفئدة الناس من أدبه، و قربته بالفعل كشاعر من قلوبهم حين استطاع أن يرتفع بحسه الوطني إلى مستوى الحس الإنساني في تعبيراته الشعرية.. و هكذا أطل ابن المقرب من بين هذي الحسين، شاعراً او طائراً مغرداً في آفاق الحياة، و هما جناحاه اللذان يطير بهما.
و قد تعرض مجتمعه (للفساد فتدهورت الأخلاق و انتشر الرياء و النفاق بين الناس و عمّت الرشوة و ساد الظلم و الاعتداء و لم يبق من ظواهر الأصالة في الحضارة العربية غير نفوس أبية حرة و فئات فكرية واعية تثور بين وقت و آخر، هنا أو هناك في أجزاء الوطن العربي الكبير محاولة مقاومة الظلم و الانحطاط و العودة إلى حياة الخلق و الإبداع و الطهارة.. ) و كانت هذه الظواهر الفردية المنعزلة بمثابة مشاعل تضيء طريق الحياة العربية بعد ان طغت عليها عوامل الجمود و التخلف و الزيف كما يقول الدكتور الأنصاري.
و يستطرد هذا المحقق بقوله: (تأمل ابن المقرب في شؤون بلده فرأى الفساد ضارباً أطنابه: الأمراء في غير مستوى المسئولية، المنافقون و المشعوذون هم الذين ينالون النعمة و القرب و النفوذ، أما الأكفاء المخلصون فهم مبعدون مضطهدون، الظلم و الرشوة أصبحا قاعدة المعاملات، العدو المتربض يرمي حبائله في الظلام فلا يقف في وجهه أحد، بل لا يثنيه أحد إلى مكره و طمعه).. (و يرجع السبب الرئيسي في نكبة ابن المقرب إلى نظرته إلى الحركات الانفصالية، و إلى عدم قناعته بالسياسة التي سار عليها الأمراء العيونيون، بعد تولي الأمير محمد بن أبي الحسين الحكم في القطيف، و في أثناء حكمه. ففي سنة 602هـ، كان واقفا إلى جانب هذا الأمير، و راح يعرض بالأسرة العيونية (في الأحساء) التي يمثلها بنو ماجد. يقول و هو يومئ إلى بن ماجد، كأنه يعني بني عقيل أنصار ماجد بن محمد حاكم الأحساء)- على حد تعبير الدكتور فضل ابن عمار العماري-:
لَئِن طَلَبَت أَهلُ الممالِكِ حَقَها .. وَ سَارَ بِهِم قَلبٌ إِلَى المَجدِ حرَّانُ
فَلاَ عجبٌ أَن يَطلُبَ الحَقَّ أَهلُهُ .. فَلِلدَّّوحِ أورَاقٌ نَشَأنَ وَ أَغصَانُ
فَلَيس لِقَومٍ غَيرِهِم أن يُعَرَّضُوا .. نُفُوسَهُم لِلَّيثِ و اللَّيثُ غَضبَانُ
و يستطرد الدكتور العماري قوله: (أما نكبته فبدأت في الأحساء مباشرة بعد تولي محمد بن ماجد إمارة الأحساء و ذلك انتقاماً منه لوقوفه إلى جانب الأمير محمد بن أبي الحسين أحمد).. فكل هذه الملامح أو المؤثرات، ظهرت بوضوح في جميع أشعاره، تلك الأبيات التي أفصحت عن آرائه و نظرياته الفلسفية الأبيه الحرة.
ففي جو مضطرب، ساد فيه الاعتداء و الظلم، حمل ابن المقرب أمواله، (و فرّ مع أسرته و خدمه من بلدته. و كان كلما مرّ بقرية ولا تعجبه، يغادرها إلى غيرها، حتى وصل إلى بلدة اسمها طيوي، من قرى ولاية صدر العمانية، فأعجبته طبيعة تلك البلاد، و جمالها الخلاب، فقال قولته المشهورة: طيوي.. يا نفسي طيبي، هذه دار الغريبي.. و أقام بها و قرر الاستقرار و الحياة فيها.. و حكم ابن مقرب طيوي، و بنى بما حمله معه من الأموال قصراً او حصناً فوق جبلٍ عالٍ بقرية جريف التي تعتبر من أقدم قرى و مناطق طيوي)- على حسب تعبير الدكتور فضل بن عمار العماري-.
و قد أمر ابن المقرب قومه بإعداد قبره وسط الجبل المواجه للجبل المقام عليه حصنه.. فقد كان يخشى أن يتبعه قومه للأخذ بالثأر منه.. و عليه أمر (ببناء درج بالحجارة و الطين و الجص يؤدي إلى كهف بهذا الجبل، ثم أمر بوضع قرش من الذهب تحت كل درجة من درجات السلم، و أوصى بدفن الجثمان بعد وفاته في ذلك الكهف.. فلما مات و دُفن أسرع القائمون على دفنه بهدم و نبش الدرجات بحثاً عن القروش الذهبية. بدأوا بالدرجة الأعلى فالتي تليها.. حتى تهدم الدرج و انهار. و قسموا المبالغ التي عثروا عليها بينهم)- على حد تعبير الدكتور العماري- و قد حاول قوم من عشيرته يطلبون الثأر بعد وفاته، الصعود إلى قبره لكنهم وجدوا الطريق مهدماً فرجعوا خائبين من حيث أتوا.
و هناك قصة شعبية أخرى يرويها الدكتور فضل بن عمار العماري مفادها: (و من الطريف ما حدّثني به أحد كبار السن من الأحساء، من أنّ ابن مقرب، كان ذا صلة بالحلاقين و عليه ثأر من مجموعة ما، قرب منهم، و أوصى أن يَدفِن معه كل حلاّق في البلدة أمواساً و سكاكين، و أن يُغطى بها قبره، و لما مات جاء أولئك الذين يطلبونه بدم، و راحوا ينبشون القبر ليخرجوا جثته فيمثلوا بها، لكنهم كلما حاولوا الحفر جرحتهم موسى أو سكين، فتركوه و رجعوا دون أن يظفروا به).
(و على العموم، فالمؤرخون -حسب رواية عمران محمد العمران- مختلفون في مكان وفاته، فبعضهم يرى أنه توفي الأحساء، و بعضهم يرى أنه توفي في طيوي).. و ما زال حصن ابن مقرب و كهفه باقيين حتى اليوم في جبلين متقابلين بقرية جريف بأعلى وادي طيوي كما أفادنا يوسف الشاروني، مجلة المنتدى، ابن المقرب ص24.
و هناك قصة أخيرة أردت أن يلم بها القارئ يرويها الشاروني، و مجملها: أن ابن المقرب بنى قصراً و جعل أساسه ملحاً، و دعا عشيرته إلى وليمة غداء، فلما تجمعوا، و أقبلوا على تناول الطعام، أمر ابن المقرب بدفع الماء في الساقية، بحيث يمر المار بجوار قاعدة القصر، فذاب الملح، و انهارت جدران القصر على من فيه، فمات منهم من مات، و بقي منهم من بقي، غير ان من نجا باعجوبة، لم ينجح من عاهة دائمة.. و كل ظني أن هذه القصص فيها الكثير من المبالغة، و لا تعتمد على جوهر، اللهم إلا على السبب الحقيقي وراء خوفه من المنتقمين حتى على نبش قبره و التمثيل بجثته.
شعر ابن المقرب في نكبته
إن شعر ابن المقرب في نكبته هو ثمرة المعاناة للخروج من شرنقة الذاتية الخالصة، إلى عالم الموضوعية السائدة، أي عالم حياته، المزدحم بالأحداث و الأوضاع الفاسدة، و الانفعالات النفسية.. ففي شاعريته نموذج فذ لهذه الموضوعية التي أغنته أدباً، و أكسبته في الوقت نفسه الكثير من القوة و التنوع.. فسرعان ما ترددت أصداء هذه النكبة في كافة أبيات قصائده الخالدة.
ينحدر ابن المقرب من أسرة الأمراء العيونيين -كما سبق و ذكرنا آنفاً- غير أنه (رفض مجاراتهم و وقف منهم موقف الناقد الناصح المعارض ثم موقف الثائر المتمرد عندما لم ينفع نقده و نصحه.. كان شعوره المتوقد و حسّه العربي و تفكيره الثاقب يمنعه من الوقوع في شباك الزيف التي لفّت بخيوطها حياة المجتمع و الاستسلام لحياة التقليد و الانحطاط و الفساد التي كان يعيشها أبناء عمه و بقية قومه) على حد تعبير الدكتور محمد جابر الأنصاري.
فقد تعرّض ابن المقرب للسجن في شبابه المبكر، (و لم يكن لأمر جنته يداه، و إنّما وشى به حساد بيته حرصاً على اطفاء فضله و صيته، و سعى به آل أبي المنصور بلا دليل، فأقام في السجن مدة، و أفرج الله عنه بعد جهد و شدة) حسب تعبير شرح (ديوان ابن المقرب).. (و عندما خرج من السجن كان شعلة من الثورة ضد الأوضاع الفاسدة فحاربوه و سدوا أمامه كل سبل العيش الشريف فاضطر إلى المهاجرة من وطنه إلى العراق، حيث بقي مدة طويلة) على حد تعبير الدكتور الأنصاري، ففي سنة 605 هـ قال ابن المقرب قصيدته المشهورة، و هو في بغداد ذاا سجنه و نكبته:
وَ لَم يَكفِهِم قَيدٌ ثَقِيلٌ وَ خَشبَةٌ .. بِرِجلِيَ في دَهمَاءَ تُنسِي المَصَائِبَا
و يقول الدكتور فضل بن عمار العماري: (و هكذا، فإن نكبته وقعت مباشرة بعد اغتيال محمد بن أبي الحسين أحمد في سنة 605هـ، و استقلال محمد بن ماجد بحكم الأحساء في السنة نفسها، و قد تمكن من القبض على ابن مقرب، و هو موجود في الأحساء، فأودعه السجن و صادر أمواله، و ذلك بعد تسلمه الحكم مباشرة).. و قد ذكر ابن المقرب نكبته هذه في شعره، فقال:
و يُقعِدُنِي عَمّا أُحاوِلُ نَكبَةٌ .. جَرَت وَ زَمَانٌ عَاثِرُ الجَدَّ فَاسِدُ
و أشعاره مليئة بمثل هذه المواقف المؤثرة التي استخرجها من صفحت واقع الحياة، و بذلك جاء شعره نموذجاً حياً للشعر الإنساني، الذي لا يعرف الحزن و الأنين إلاَّ مع حزن و أنين الآخرين.. تحمَّل مأساته، و صبر على نكبته، و واجه مصيره بقوة و رجولة، كما تعوَّد أن يفعل ذلك في حياته كلها.. تخلَّى عنه مَن تخلَّى بعد أن غربت أيام مجده، فقال هذا البيت الذي لم يكن عنه وحده، لكنه موجّه إلى كلَّ انسان يعاني و يتألم، و البيت دعوة إلى عدم الشماتة به، إذ يقول:
فَلاَ يَفرَحُ الخَلَفُ الهِدَانُ بِنَكبَتي .. فَمَا نَالَنِي مِن صَرفِهَا فَهوَ نَائِلُه
أما إذا قرأنا في هذين البيتين، لإبن المقرب، سنقرأ ما يشير دوماً إلى نكبته كانت بسبب الخصوم و الأعداء فأحس بضرورة الصبر و مقاومة ما طرأ فقال:
وَ قَد كُنتُ ذَا مَالٍ حَلالٍ وَ ثَروَةٍ .. يُضاعَفُ إِكرامِي وَ تُرجَى مَكَارِمِي
فَمَالَ عَلَى مَالي و حالِي وَ ثَروَتي .. وَ جَاهِي وَ أصغَى لاِختِلاقِ النَّمَائِمِ
و كانت علاقته مثلاً بالفضل بن محمد بن أبي الحسين أحمد، حاكم القطيف، في بادئ الأمر علاقة ود و قربى، لكنها أخذت في التوتر بعد ذلك.. و لا بدَّ ان خصومه تألّبوا حتى قال في ذلك:
أَهلُ التَّمَلُقِ بَاعَدَت ما بَينَنا .. بِحُطَامِها و الزُّورِ في خَلَوَاتِهَا
و نحن نتأمل في نكبة ابن المقرب، فنجد أنه نفض عن نفسه كل القيود الذاتية، و خرج من عالمه الذاتي إلى الموضوعي -كما سبق و أشرت آنفاً- فهو لا يسجن نفسه في أشعار نكبته، بل لجأ قبل النكبة و بعدها (إلى النقد الصريح في تبيان الأخطار المحدقة بوطنه و قومه، و هو لا ينفك يكرّر في ثنايا نقده مبادئ الحياة الصحيحة التي يجب أن يتبعها كل مَن يريد ازالة الظلم و محاربة الفساد و طمس الزيف) -على حد تعبير الدكتور الأنصاري- و قد عبّر عن مبادئه جراء ما يحمل من شعور خاص لنكبته المفجعه فقال:
بَنِي عَمَّنَا لا تَظلِمُوا الحَقّ أَهلَهُ .. وَلا تَفتَحُوا بَاباً إلى الشرَّ لَهجَمَا
و يقول الدكتور الأنصاري: (و يستغرب الشاعر من بيع البلاد بثمن زهيد، و من استماع الأمراء إلى مَن لا يصدق النصح و يخلص في الإرشاد فيمنيهم بالنار من تحت الرماد.. و الحر العاقل يجب أن يفكّر في العواقب و لا ينخدع بالسراب.. ثم يصوّر في البيت الأخير بألم كيف ذلّ الكريم الحر و ارتفع اللئيم المنافق التافه و أصبح الأول يهاب الثاني كما يهرب البازي من كلب الجراد) :
يا لقومي ما أراكم حسناً .. بيعنا بالبخس في سوق الكساد
عجباً منكم و من تصديقكم .. من يمنيكم بنارٍ من رماد
و اللبيب الحر لا يخدعه .. لمعان الآل عن حفظ المزاد
يا بغاث الطير طيري و انظري .. هرب البازي من كلب الجراد
و يجدر بنا العودة على ذي بدء، فنرى ابن المقرب، يرفض الحياة المقرونة بالضيم و شماتة الأعداء رفضاً تاماً، (و يشير إلى ان قومه لا يعينونه في دعوته، لذلك فلا بد ان يرحل تاركاً الأعداء و الأصدقاء المبطنين العداوة ليستطيع التبشير بدعوته في أرض أخرى. و هو يؤكد في النهاية ان العز لا يضمن إلا بالنضال.. و بالرماح السمر و السيوف القواطع) على حد تعبير الأنصاري، و بذلك دخل ابن المقرب عالماً لا تنتهي أحزانه أو تتوقف عند حد معين، و هو يحث نفسه على الرحيل من البحرين، إذ يقول:
دع الدار (بالبحرين) تغفو ربوعها .. و سقها و لو لم يبق إلا نسوعها
و خل أحاديث المطامع و المنى .. ألا إنَّما أشقى الرجال طموعها
و لا تحسدن فيها رجالاً بشبعها .. فخير لها من ذلك الشبع جوعها
لو ان ابن المقرب اقتصر على التعبير عن مشاعره الخاصة و توقف عند هذا الحد، فإنه لا يستطيع النجاة من براثن الألم، و لن يستطيع، في حال من الأحوال، الأبحار بسفينته بعيداً عن شاطئ أحزانه، و هو يرى خير وطنه الكثير الكثير، و لكن ابناءه محرومون منه، (فبعداً لدار خيرها لعدوها):
فخير لعمري من بساتين (مرغم) .. على (ذي المجاري) طلح نجد و شوعها
و من مروزي بالقطيف و لا لس .. عباء بوادي طيء و نطوعها
و من لحم صاف في (أوال) و كنعد .. ضباب و جرذان كثير خذوعها
أما سهمنا في بحرنا الملح ماؤه .. و في نخلها العم الطوادي جذوعها
و ليس لنا في الدر إلاّ محاره .. و لا في عذوق النخل إلاّ قموعها
و من هذا المنطلق يجدر بنا أن نقرأ ما كتبه الأنصاري في هذا الصدد حيث قال: (خير لنا من بساتين (الأحساء) اليانعة و ثياب (القطيف) الحريرية، و صافي (أوال) و كنعدها، أن نكتفي بأقل القليل من مأكل و ملبس في غيرها من البلاد، فخيرات بلادنا ليست لنا. نحن لا نحصل من بحرها على غير الماء المالح أما اللآلئ و الأسماك و الخيرات الأخرى فلغيرنا.. و نحن لا ننال من نخلها اليانع المثمر إلى الجذوع اليابسة أما الرطب الجني فللآخرين).
عفاء على البحر لو قيل أينعت .. نخيلات واديها و جادت زروعها
فهل ذاك إلا للعدو و عصبه .. سيشقى بها متبوعها و تبوعها
كانت هذه المشاعر شعلة وضاءة في شعره، و هي المنبع الأكبر من منابع الألم عنده، حتى أصبحت هموم بلاده قيثارته الغنائية، لا تعزف سوى الحزن، و لا تفيض بأنغام سوى طلب العز و انتظار عصر العلياء، و إلا (فاطلب لنفسك عن دار الأذى بدلا).
أما إذا قارنا هذا البيت الذي قاله و هو في بغداد، و مفاده:
و لاً عَارَ في ضَيمِ المُلُوكِ عَلَى الفَتَى .. وَ مَا زَالَ حُكمُ السَيفِ في الأرضِ غَالِبا
نعم، إذا قارناه ببيت آخر قاله في باتكين سنة 604هـ بعد خروجه من بغداد:
سَمَا لَكَ مِن أُمَّ العُبَيد خَيَالُ .. وَ دُونَ لِقَاها أجرُعٌ وَ تِلالٌ
(نجد البون شاسعاً بينهما من الناحية النفسية، فالأولى مشحونة بالعواطف المتألمة الحزينة، على حين ليس في الثانية إلا حنين إلى دياره الأحساء) على حد تعبير الدكتور العماري، و لكنه في الثانية يعبّر عن وجده للقريتين: الأحساء و القطيف.
أقُولُ لِرَكبٍ مِن عُقَيل لَقِيتُهُم .. وَ أعنَاقُهَا لِلقَريَتَينِ تُمَالُ
أيَّا رَكبُ حُيَّيتُم وَ جَادت بِلادَكُم .. غَمَائِمُ أدنَى سَحَّهِنَّ سِجالُ
الدراسات الأدبية في شعره
كان ابن المقرب وطنياً مخلصاً لوطنه كل الإخلاص، لكنه كان كغيره من الوطنيين العيونيين المخلصين، يعاني معاناة شديدة من مرارة الضيم و النفي.. غير ان الشعور الوطني وحده، مهما كان متأججاً و قوياً لا يقوى على تحرير الوطن من الفوضى و الفساد.. و أمام عجزه عن تغيير الحال للأفضل، كانت تعصف بأفكاره أقسى الآلام و أخبث الهواجس، كلما تذكّر ضعف الدولة بسبب المنافسات الداخلية و الأطماع الفردية.. و قد استعرضنا في الفصل السابق أهم المصادر الخاصة و العامة لذلك الشعور بالحزن و الألم الذي يملأ صدر ابن المقرب و قصائده، فلا يكاد هذا الألم يترك في نفسه شمعة واحدة من شموع التفاؤل او الأمل في امكانية التحرير، إلا أحرقها.
و سنستعرض في هذا الفصل أهم الدراسات الأدبية الكبيرة التي تناولت اشعر ابن المقرب، و هي:
أولاً: ابن المقرب حياته و شعره، للأديب عمران محمد عمران.
ثانياً: شعر علي ابن المقرب العيوني، للكاتب أحمد موسى الخطيب.
ثالثاً: علي ابن المقرب العيوني، للمحقق علي بن عبدالعزيز الخضيري.
رابعاً: التجربة الشعرية عند ابن مقرب، للشارح عبده قليقلة.
خامساً: ابن مقرب و تاريخ الإمارة العيونية في بلاد البحرين.
فضل بن عمار العماري
إنَّ أي نظرة عميقة إلى هذه الدراسات الأدبية، لا بد أن تنتهي إلى أن تجربة ابن المقرب الشعرية كانت صعبة، حتى لو كانت شعلة وضاءة، و لا بد لهذه النظرة العميقة أن تدرك تمام الإدراك، أن كل شيء لن يدوم، و إنما يصير في النهاية للزوال، فالسعادة لا تدوم و لا بد أن تنطوي صفحتها الجميلة في يوم من الأيام، و النعمة لا تدوم، و الصحة لا تدوم، و الصداقة لا تدوم، و العلاقات الانسانية و السياسية لا تدوم، فلا بدَّ للزوال كائن مَن كان.. هذا هو قانون طبيعة الوجود، و لا تبديل لهذا القانون، و من هذا المنطلق كان الفن الجيّد هو فن لا يخلو من الألم و الشجن و الحزن، على مرّ الأيام، و مدى تاريخ الإنسانية كلها، فالفن الخالد و خاصة في مجال الشعر هو تفكير عميق في شؤون الدنيا و أمورها، و لا يخلو فن حقيقي من مثل هذا النوع العميق من التفكير، بحال من الأحوال.. فالفن إذن، هو أداة قوية يستطيع الإنسان أن يتغلب على آلامه من خلالها، و الشعر في مقدمة الفنون لهذه الأداة.
علاوة على ما ذكرنا، يمكننا ان نعتبر ذلك اللقاء بين المحققين في شعر ابن المقرب و بين المؤرخين لسيرته، لقاءً تاريخياً، نظراً لأهميته العظيمة بالنسبة للنتائج التي أسفر عنها فيما بعد.. (و لا شك ان هذه الدراسات أفادت الأدب كثيراً بإخراجها هذا الشاعر إلى الساحة الأدبية المعاصرة) على حد تعبير الدكتور العماري.
فالنظرة الأولى إلى الدراسات الخمس الأدبية في شعر ابن المقرب، لها قيمتها الفنية.. و هي بالتأكيد لا تتيح للباحث أن يعرف حقيقة الاستجلاء الفني و أهميتها، و لكنها تهبنا حتماً الإحساس الأولى الذي من خلاله نحب هذه الدراسات أو نملها، و في الغالب يكون حكم النظرة الأولى، في أي عمل أدبي، نقوم به، حكماً له صدقه و مكانته، خاصة إذا ما اختبرناه و وضعناه فيما بعد، في موضع التجربة.. فعندما نلقي نظرة عامة على هذه الدراسات فإننا نستطيع أن نلمح ظاهرة لا شك فيها، و لا غموض حولها، هي ان ابن المقرب كان مرتبطاً بشعبه و وطنه، و كان يستخدم مواهبه في خدمة أمته، و خاصة في المراحل الحاسمة من التطور التاريخي لبلاده، و هي المراحل التي يحتاج فيها وطنه إلى كل قوى الشاعر لإبن المقرب المادية و الروحية سواء بسواء.
و على الرغم من هذه الدراسات الأدبية الواسعة التي تناولت شعر ابن المقرب فما زال (الديوان محتاجاً إلى دراسات أخرى لاستجلاء فن الشاعر و طريقته الشعريه) -على حد تعبير الدكتور العماري- و الذي يعنينا هنا، و نحن نتحدث عن هذه الدراسات، أن نبرز للقارئ مدى أهميتها في مسألة تشبعه بحب بلاده، إذ يقول الشاعر الأمريكي المشهور (والت ويتمان): (إن دليل شاعرية الشاعر أن تتشبع بلاده بحبه تشبعه بها).
و لكي أصل إلى هذه الغاية، فقد عدت إلى قراءة شعر ابن المقرب في ديوانه المعروف، و قمت بعملية مراجعة و مقارنة، هدفها تحديد انتاج الشاعر تحديداً كيفياً أولاً و أخيراً.. و على هذا الأساس، فإنه قد تبين صحة قول الدكتور العماري، (انه في هجائه لم يتأثر بهجاء ابن الرومي، بل كان يطلق الشتائم و السباب، كما يقتضيه فن الهجاء المألوف، و لم يستوعب طريقة ابن الرومي التحليلية المنطقية).
لابن المقرب شطحات تدل على الغرابة و الخروج على المألوف، و لكنها تدل على النبوغ و العبقرية، في نفس الوقت.. و مهما تكن هذه المآخذ الفنية، عليه، (فإن بيظل علماً بارزاً تجاوز عصره، و هو عصر تحكمت فيه الصياغات البلاغية المتكلفة، و ابتدأت اللغة فيه تهبط إلى مستوى الضحالة و الانحطاط) -على حد تعبير الدكتور العماري- و من هذه الشطحات غلوه الملحوظ في شعره غلو فكري مستند إلى أهداف مذهبه و اتجاهه الديني.
لا نقول في شعر ابن المقرب ما نشاء، و لا يجب أن نتجنى عليه كما نريد، لكنه حقاً حاول أن ينهج نهج المتنبي في القول الشعري، إلا أنه لم يوفق.. فلا أذكر أني قرأت شعراً في مثل قول المتنبي، و لا أكاد أصدق ان الدنيا ستسمح يوماً ما بأن يكون له مثيل او ضريب.. و لو أن شاعرنا كان يكتب بدرجة عالية من الإثارة و الجاذبية في أجواء واسعة من إبداع و حس و انفعال، لكان سحره في اللغة العربية، شبيهاً بسحر المتنبي فيها.
و ابن المقرب، و إن لم يبلغ درجة المتنبي في قول الشعر، إلا أنه شاعر طبع، و لم يكن شاعر تكلف.. و قد كان (شديد الارتباط بالتراث البدوي القديم، خاصة تراث قبيلتي بكر و تغلب، فأصداء شعر هاتين القبيلتين يتردد في شعره، و أخبارهما مادة تاريخيه له) -على حد تعبير الدكتور العماري-.
على أية حال، أراد ابن المقرب رفعة قومه و اعلاء شأنهم، و وحدة بلادهم، فأضاعوه.. كان شعره أشهى من مذاق الرطب، و أطيب من عصير العنب، غير ان عدم الصراحة في مواقفه السياسية، كانت المثيرة للانتباه في أبيات قصائده.. و قد يعود ذلك إلى اتخاذه جانب التقية، فيقول بغير ما يؤمن به.. (فهو يطري أبناء عمومته في الأحساء اطراءً يُدخل الشك في سامعه بأنه حقاً يمدحهم عن قناعة و اعتقاد)!!! على حد تعبير الدكتور العماري.. لهذا ظل الباحثون حيارى في توجه ابن المقرب السياسي.
لقد كان ابن المقرب، قادراً على أن يترك لنا أثراً فنياً أكبر و أضخم من خلال شعره، لو أنه ركز مواهبه الخصبة و ذكاءه العميق النادر على الإبداع الشعري وحده كما فعل المتنبي، و لكن ابن المقرب أنفق ذكاءه في النكبة التي أصابته، و الثأر و الخوف من الثأر.. هذا الوقت الضائع من عمر ابن المقرب، يمكن أن يكون خير عبرة و درس للجيل الجديد من الأدباء و الشعراء، حتى يتعلموا ألا ينفقوا مواهبهم الإبداعية و طاقاتهم العلمية، فيما يبدد امكانياتهم الفنية.
مراثيه في آل البيت
ترددت طويلاً قبل الخوض في موضوع شعر ابن المقرب في رثاء آل البيت، و لكنني قررت في النهاية على أن أخوض غمار المعمعة، خصوصاً و ان هذا النهج من ديوان شعره، يعالج الصحوة المتأخرة في رثاء الحسين عليه السلام، لدى ابن المقرب، و تعالج سيرته الأدبية ايضاً كما تبدو من المنفى.. و الكلمة لوجه الحق، فشعره أعادني إلى الزمن البعيد، إلى ذكرى ملحمة كربلاء.. إذ يغدو ابن المقرب عجينة انصهاره في تجربة حسينية ذاتية، عفوية، يحكم مكانته الدينية، بين قومه و عشيرته.
إن قراءة سريعة لقصيدة ابن المقرب، العينية في رثاء الإمام الحسين (ع)، تظهر ثباتاً ملموساً بعقيدته المذهبية، إذ يقوم بناؤها المحكم على تعرية فتلة الحسين بن علي، في معركة الطف.. فمن جدية هذه القصيدة العينية، قد منحها الشاعر، بعداً فنياً، فيه قدر لا يستهان به، من المزاوجة بين الواقع و التخيل، عبر الاسترسال في صورة حزينة مؤثرة.. حافظ ابن المقرب على استغراقه في مشاعل طرحه للمعركة، و استطاع، بكل أمانة، أن يصل قريباً في تلمس تجربته و استشراق سمائها البكر.
إن ابن المقرب، يركن الى قصيدته العينية، التي تقوم على الصدق و الإبداع إذ يعزز بناءها وحدة الأفكار التي تجمعها مخيلة ناضجة مثمرة.. و هكذا يلائم الشاعر بين الفكرة و بنائها، و يترك، في الوقت نفسه، لدغدغة المخيلة ان تنهض بأعباء المهمة الشعرية.. فالصورة الشعرية هنا ترتدي بعداً تركيبياً منظماً.. و هي مع ذلك تنعم بمزيج حار من التداعيات المحكومة الى بنائها في التسلسل و التعثر، لكن من غير ان تخطئ صوابها.. فنلاحظ بأن للإيقاع صوته، و للكلام صوته، من غير أن يحيل هذا التراوح العلني بينهما جسد القصيدة إلى ميدان مباح، أو اضطراب مشرع على القهر و الاغتصاب.. فيبرع ابن المقرب كتابة أبياته التصورية للقصيدة العينية، فيكتمل المشهد الشعري لديه بهذا الحشد من الاستعارات و الرموز التي يسقطها عليها، و هو بذلك يجعل من الفكرة أداة تطاوع الحواس، حيث يقول:
يا باكياً لدمنةٍ و أربُعِ .. ابكِ على آل النبي أو دَعِ
يكفيكَ ما عاينتَ من مُصابهم .. من أن تبكى طُلولاً بِلَعلَعِ
و عليه يطوع ابن المقرب مخيلته الشعرية، فلا ينقاد تماماً إلى عصفها، أو يستسلم كلية لضرباتها، لكنه ينأى بها إلى حيث يشاء، و قد يلاعبها و يداجنها، في نظرة حالمه هادئه، نظرته إلى افراط الأسى على آل البيت تعني علامة من علامة التشيع.. فنظرته إذاً إلى الأشياء تسابق البداية و النهاية، لتكشف عن روح ابن المقرب و مذهبه، إذ يقول:
تُحِبُهُم قلبي و تبكي غيرهُم .. إنك فيما قُلتهُ لمُدَعِ
أما علِمتَ أن إفراط الأسى .. عليهم علامةَ التشيُعِ
يأتي ابن المقرب إلى نظم هذه القصيدة، محملاً بجراحاته اليومية، بعذابات لها ترجيع في نفسه و ذاكرته.. و على رأي الدكتور العماري: (فهي أبيات لا يمكن أن يقولها شاعر عادي، او مفتعل للشاعر، بل لا بدّ أن يكون على مستوى ابن المقرب.. و صياغة الأبيات تدل على تداخل العقل و العاطفة في قوله الشعر، التي ألمحنا إليها عند حديثنا عن ابن مقرب و الأدب.. و قوله: (تحبهم قلبي و تبكي غيرهم) هو من الصياغة المألوفة عنده. فهو يحب آل البيت، إلا أنه يبكي ساكن الديار، و لهذا تدخل تفكيره في توجيه هذا التضارب).. لكن قصيدته رغم ما قلنا، تحتفظ دائماً بعذوبتها و صفائها، بها لمسة الرثاء و شفافيته، و بها أيضاً همسة المنطق.
و حسناً كان فعل ابن المقرب لو أسقط من بعض أبياته المقاطع التي لا تهجس بشيء من مجموعة ديوانه، مقاطع جاءت أحياناً خارج هدف القصيدة و كيانها، و بعيداً عن دفء مائها، إلى درجة أن القارئ يشك بأن ما يقرأه يعود إلى شاعر واحد.
نقرآ في البيتين الآتيين مفردات تتألق في سياق القصيدة و تمنحها مساحة كبيرة من الأسى، و قدراً عالياً من الحزن.. و الكلمات تتمثل في: البكاء، النواح، فيض من الدمع، بحيث ان القارئ، يبدو منصاعاً الى دويها الشجي و إلى ظلالها المحزنة.. و بذلك يستغرق شاعرنا عالمه و يطوعه لأحاسيسه التي تنبض برؤى ذاتية إذ يقول:
أقوَت مغانيهم فهن بالبُكا .. أحقُ من وادي الغضا الأكرعِ
يا ليت شعري من أنوح منهمُ .. و من لهُ ينهلَّ فيضُ أدمُعي
هكذا حاول ابن المقرب، أن تبدو قصيدته العينية على قدرٍ من الافتعال، أو لنقل قصيدة تنساب بقوة المخيلة متى تحولت إلى مختبر الطابع العقلاني الحزين.. كما تتوارد أفكار الرثاء دون رتوش، في قصيدة أخرى.. هذا إلى جانب ظاهرة التكرار التي شاعت في قصيدته العينية نجدها واضحة في قصيدته الثانية، التي قد تدخل فيما يسمى برثاء الذات.. بل إن تشابهها مع قصيدته الأولى يكاد يكون متطابقاً كلياً، إذ يقول:
فيا باكياً قبل النوى خشيةَ النوى .. رويداً بعينٍ جفنُها سوف يقرحُ
و لا تعجلن و استبق دمعك إنني .. رأيتُ السحاب الجون بالقطر يترَحُ
إذا كنتَ تبكي و الأحبةُ لم ترِد .. ببيتهُمُ إلا حديثٌ مُطوَّحُ
فكيف إذا ما أصبحت عينُ مالكٍ .. و حبلُ الغضا من دُونِهِم و المُسيَّحُ
يلمس قارئ ابن المقرب، أن صورة الأطلال في العينية هي صورتها في القصيدة اللاحقة هنا، أضف إلى ذلك التدخل الفني لصرف تضارب البكاء غلى الأطلال مع البكاء على الحال في هذه القصيدة، هو التدخل نفسه في القصيدة العينية.. و إذا كانت البساطة صفة شعره هنا، فإن ذلك يجعلنا نرى فيه طاقة واعدة هناك.
و يحرص ابن المقرب على ديمومة تجلياته في هاتين القصيدتين.. إذ يلاحظ ليس فيهما اختلال في الوزن، لأن ما جاء فيهما هو مما يعد من الخروجات، المألوفة في الرجز.
حقيقة في قصائد ابن المقرب، الحسينيه، قلق عابر و طفيف، غالباً ما يشف عن عدم الاستقرار في عيشته، نراه يخاف و يحذر، إلا أنه في سريرة نفسه يملك الشجاعة على محاورة وجوده.
لابن المقرب قصيدة في رثاء آل البيت لم يبق منها إلا مطلعها، و هي من البحر الكامل الذي نظم فيه هذا الشاعر، ليعلن الوزن و البيت و اللغة عن تشابه مع بقية قصائده، إذ يقول:
هذا الغَميمُ فنادِ في صحرائهِ .. و قِف الرَّكابَ هُنَيئة بِفنائهِ
من الواضح، بل الأكيد أن ابن المقرب، عمل على مادة تاريخية هامة خام جاهزة أمام مخيلته ثم وضعها في ذاكرة الشعر، و ترك لهذه الذاكرة الفوّارة أن تقود الزمن الرثائي فتدفعه إلى الأمام و الوراء في آن واحد.. و بذلك تموت عنده الشخصيات بعد ان تهرم، ثم تعود شابة، و تتوحد و تتفرق في آن معاً كذلك، دون أن تخرج أصلاً من دائرة ثنائيات وطأة الحزن و الخوف، الجوع و القمع، البطل و أعداؤه، الانصياع و الرفض. فراحت شخصيات ابن مقرّب تحفر في زمان واحد و مكان واحد، هو كربلاء إذ يقول مخاطباً نفسه و شخصيته في قصيدة أخرى نقتبس منها:
مِن أيَّ خطبٍ فادحٍ نتألَّمُ .. و لأيً مُرزِئَةٍ ننُوحُ و نلطِمُ
مقتبسات هامة من ذاكرة ابن المقرب
في البدء هذا السؤال: ماذا أعطت سنوات عمر ابن المقرب، من صفاء أو جفاء، منذ مولده عام 572 هجرية ببلدة العيون، حتى وفاته عام 630هـ ببلدة طيوي في عُمان؟ و الجواب: لقد أعطته كل هذه السنين، كماً هائلاً من معاناة التشرُد و العذابات، و الرحيل عبر المنافي البعيدة عن وطنه، ثم الضنك و الأوجاع و النوائب.. و في نظريت، ان المرء إذا كان مخلصاً مع نفسه على الأقل، لا يستطيع ان يهرب من ماضيه، لأنه لا يمكنه ان يهرب من نفسه، و تلك هي المأساة.. فهو تحديداً، منذ ما يزيد عن خمسة و عشرين عاماً، بقليل، في الفترة ما بين عام 605 هـ حتى عام 630هـ، مشرد على وطنه، و متوقف عن المشاركة في اتخاذ القرار فيما يختص بشؤونه، لكنه كان شعلة نيرة في مجال مواقفه و ذاكرته و أدبه.
و لنبدأ بموقفه من سلوك القرامطة، إذ على يد المؤسس الأول من الدولة العيونية، زال القرامطة من شرق الجزيرة العربية -و القرامطة جعلوا تأدية الصلاة و الصياح، مسألة شخصية لا علاقة لها بالأوامر الشرعية، بينما الصلاة و الصيام ركنان رئيسيان من الأركان الخمسة التي يقوم عليها الإسلام. و ما من فرقة من الفرق الإسلامية الرئيسية ترى إلغاء أي ركن من اركانها الخمسة.. إذ يقول فيهم:
و أبطلُوا الصلواتِ الخمسَ و انتهكُوا .. شهرَ الصيامِ و نصُّوا مِنهُمُ صنما
فمن منطلق إلغاء الصلاة و الصيام، انبث الرعب في نفوس أبناء المنطقة الشرقية، و بذلك هجرت مساجدها، و قام أتباع القرامطة بتدميرها، و عندها يقول ابن المقرب:
و ما بنوا مسجِداً لله نعرِفُهُ .. بل كلَّ ما أدركُوهِ قائِماً هُدِما
أما موقفه الثاني فتجلى، حين نشب الصدام بين القوة السلجوقية المهيمنة، و القوة العيونية الناشئة و الفتية و قد كان هدف السلاجقة ينحصر في البدء على مزيد من المكتسبات الاقليمية، بغية بسط نفوذهم و سيادتهم على هذه البقعة، فقد تمكن عبدالله بن علي، مؤسس الدولة العيونية، من القبض على القائد السلجوقي البقوش، الذي قدّم مع أخيه إكسلار لمساعدته في القضاء على القرامطة عام 469هـ الموافق 1075م، و ذلك بعد مغادرة أخيه منطقة البحرين مما مكّن عبدالله بن علي العيوني الاستقلال بحكمها.. فعند وصول خبر مقتل البقوش إلى بغداد، جهزت السلطة العباسية قوة عسكرية قوامها ألفا فارس بقيادة ركن الدين السلجوقي الذي حاصر الأمير عبدالله في قصره بالأحساء.. فصاح ابن المقرب قائلاً:
و الشركسيةُ إذا جاءت تُطالبنا .. دَمَ النُفُوسِ و فينا تقسِمُ القِسَمَا
و قال كذلك:
ضربنا وُجُوه الشركسيةِ دونهُ .. و أقفاءَهَا بالسيفِ حتى تَثَلَّمَا
و في موقف آخر، من مواقف فترة التأسيس للإمارة العيونية، قال ابن المقرب في عبدالله بن علي (484هـ/1090م) مؤسس هذه الإمارة، الذي جعل الحكم وراثياً في أبنائه خاصة. و إن شارك في الحكم أمراء عيونيون آخرون، أما أبناؤهم فهم: أبو علي الحسن و فضل (و أبو مسيب) و مسعود و ماجد، و ضبار (أو صبار كما يرد أحياناً).
و عاقَبَ قومِي الغُرَّ شرَّ عُقُوبَةٍ .. و خصّص من يُنمي عليَّ و عبدلُ
أصاب الإمارة العيونية الضعف و الانقسام بين آل الحسن و آل أبي منصور، لكنها فجأة تتوحد على يد عماد الدين محمد بن أبي الحسين أحمد بن أبي سنان محمد بن الفضل (587هـ/1191م - 605هـ/1208م).. و قد عكس شعر ابن المقرب صرامة هذه الشخصية الفريدة، في اتخاذ القرار و في حزمه على التنفيذ و قمع المتمردين و المتآمرين، فيقول:
أجرَى نِزاراً كيفَ شاءَ و يعرُباً .. بالكُرُهِ من مُرادِها، و عُتاتِهَا
ما حارَبَتهُ قبيلةٌ إلا غدت .. أحياؤها وفداً على أمواتِها
و قد تميز عهد الأمير محمد بالأمن و الرخاء على الرغم من كثرة الحروب التي يشنها على أعدائه، و مجابهته المستميتة للضربات الخارجية.. و تحوَّلت البحرين بفضل الأوضاع الاقتصادية المزدهره إلى خصبٍ و انتعاش، أجاد، ابن المقرب، حين قارنها بجنة مأرب، فقال:
كانَت به البحرينُ جنةَ مأربٍ .. أيام بهجَتِهَا و طيبِ حياتِهَا
كان الأمير محمد، حريصاً كل الحرص على اشاعة العدل و الرخاء بين أفراد رعاياه، و لا غرو في ذلك، (فهو جواد كريم، لا يترك محتاجاً لحاجته، يحب الخير للجميع، و هو في الوقت نفسه شديد على أهل الجور و الاعتداء، ثم هو يزيل الروع من النفوس التي أحدثت جرماً فخافت العقاب، و أكثر من ذلك كله، كان محمد يكره اقتتال القبائل بعضها ببعض، فكان يتوسط فيما بينها، فيزيل خلافاتها و أحقادها) -على حد تعبير الدكتور العماري-، فقد قال فيه ابن المقرب:
و كم راجلٍ أمسى بنُعماهُ فارساً .. و كانت صفايَا مالِهِ المَعز و الضَّأنُ
و كم من حريبٍ راح نهباً سَواَمُهُ .. فراحَ عليهِ للكآبةِ عُنوانُ
فلما أتاهُ شاكياً من زمانِهِ .. غدا من عطايا كفَّهِ و هوَ جُذلانُ
كنت أتمنى أن تتسع رقعة هذا الفصل، لنقرأ أبيات ابن المقرب في مرحلة التوحيد و السقوط للإمارة العيونية، و الخلاف بين العيونيين و الجراونيين، و مرحلة استيلاء بني عامر على الحكم، و صراع العيونيين مع القبائل و القوى الأخرى.. الخ، غير أنني مضطر ان أختتم هذا الكتاب بهذا الفصل، و أن أختتم هذا الفصل بقول الدكتور الأنصاري: (فلنسترجع بدراستنا له ذكرى أديب حر من أدبائنا و رائد مصلح من روادنا، كان شعلة وضاءة في هذا الخليج العربي في حقبة خيَّم خلالها الظلام كثيفاً مريعاً و لنردّد دوماً مع شاعرنا الحر هذا العتاب المرير):
ماذا بنا في طلاب العز ننتظر .. بأي عذر إلى العلياء نعتذر ؟
لا عز قومك كم هذا الخمول و كم .. ترعى المنى حيث لا ماء و لا شجر
فاطلب لنفسك عن دار الأذى بدلاً .. ان جنة الخلد فاتت، لم تفت سقر