القبة البيضاء

قصة قصيرة سيدجعفر الفرزدق الديري:

مرفوعة الى الامام الحسين (ع)

ماإن علم سيد محمد أن زوجته تنتظر مولودا، حتى بلغت به السعادة منتهاها. لقد أخذ على زوجته المواثيق والعهود أن تسمّيه حسينا إن كان ذكرا أو زينب إن كانت أنثى، وأن تنشئه على محبة الإمام الحسين وأهل بيته (ع)، في حال توفاه الله تعالى الى جواره جرّاء العلة التي تنهش جسمه.

ومات سيد محمد، وجاء ابنه ذكرا. كان مولده في ليلة صادفت ذكرى مولد الإمام الحسين (ع). وكان خروجه إلى الدنيا في وقت ارتفع فيه التهليل والتكبيرات التي كانت تعمّ بيوت وشوارع القرية الإيرانية الوادعة، احتفالا بذكرى مولد سيد شباب أهل الجنة. ولم تكن الأم لتختار لابنها اسما آخر غير حسين، فكيف وقد جاء مولده في هذه الليلة المباركة؟!.

كانت أوّل كلمة وصلت سمع الوليد بعد تكبير الله تعالى وتحميده وتسبيحه كلمة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله. وقد تشرّبها سمعه فما برحت ملازمة له طوال عمره. أمّا كلمة حسين فكأنّما التصقت بشغاف القلب فهي معقودة عليه، كلّما نبض كلّما رسخت أكثر.

إن عشقا في قلب الوليد، شبّ منذ أن كان في بطن أمّه. كانت تصله وهو في عالم الرحم، كلمات أمّه في جوف الليل مسبحة الله تعالى، متوسّلة بالرسول الأعظم وبآل بيته (ع). كانت دموعها تترقرق على خديها كحبّات اللؤلؤ مضيئة ليلها الحالك. وكانت استغاثتها بسيد الشهداء (ع) تنساب كنبع صاف من المودة والحب الكبير.

******************

طلّة بهيّة، وعينين جميلتان، وقوة في الجسم، وطيبة تأخذ بمجامع القلوب. هكذا كان يبدو سيد محمد. كان له من العمر ثلاثون عاما، وكان له دكّان يبيع فيه المواد الغذائية والحلوى. كان يعيش حياة سعيدة رغم ظروف الحياة القاسية؛ فهو لا يترك فريضة تمر دون أن يؤديها في المسجد، ولا مأتما أو مجلسا تذكر فيه فضائل أهل البيت (ع)، إلا وغشيه بقلب توّاق للعلم والمعرفة. وكنت تجده كثيرا في حانوته، وقد أمسك بكتاب الله العزيز وراح يقرأ فيه بصوت أجشّ، حتى اذا مرت عليه ذكرى الإمام الحسين (ع)، تبادرت دموعه الى الجريان.

كان حبه للامام الحسين (ع) يدفعه الى التساهل في البيع مع كل زبون اسمه حسين، ما جعل بعض قساة القلوب يتندّرون عليه، ويتحدثون عن سذاجته، محاولين خداعه لكي يفوزوا بما يودّون من مأكل ومشرب. لكنه لم يكن ليعبأ بكل هذا الضجيج. فحبّه وتعلقه بالإمام (ع) مصدره قناعة بأن هذا الحب واسطة السعادة في الدارين، وواجب شرعي، لذلك لم يكن ليدع لنفسه فرصة للخروج من جنة اختارتها عن يقين.

كان من الطبيعي والحالة هذه أن يحلم سيد محمد بأبناء يحملون أسماء الأئمة من أهل البيت (ع)، أولهم يحمل اسم الإمام الحسين (ع)، يذكّره ليل نهار، بمصاب ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتضحياته. حلم ظل يداعب خياله، غير أنه لم يقدّر له أن يشهد ولادة أبنائه، إذ فاجأه المرض حال عودته في أحد الأيام إلى البيت، فبدأ الضعف ينتاب أجزاء جسمه، والعلة تزداد تشبثا بجسمه حتى أجبرته في نهاية الأمر على الاستلقاء على الفراش، بفعل حمى شديدة، لم يستطع لها الطبيب دفعا.

كان سيد محمد حتى آخر لحظة من لحظات حياته، يأمل بتحسن وضعه المادي وزيارة مشهد الإمام الحسين (ع). لكن الموت عاجله، فذهبت روحه إلى بارئها قبل أن يتحقق لها هذا الرجاء، وترك وراءه جنينا في بطن زوجته.

****************

تلك الأحداث كانت تتراءى لسيد حسين وهو في طريقه إلى كربلاء، بعد أن حفظها لكثرة ما ردّدتها أمه عليه، مذكّرة إياه بما كان عليه أبوه. تذكر سيد حسين كيف أن أمه في أيامها الأخيرة كانت تؤكد له أن أباه مات على محبة محمد وآل محمد، وأن لسانه كان يتمتم باسم الحسين حتى اللحظة التي نطق فيها بالشهادتين وسالت روحه إلى بارئها. لذا كان لسان سيد حسين لا يتوقف عن الثناء على الله تعالى بما هو أهله، والصلاة والسلام على النبي وآله الأخيار.

كان في الثلاثين من عمره، ذو وجه جميل وقامة معتدلة. غير أنه لم يكن يستطيع الحراك. ثمّة مرض أصاب الجسم، فأرهقه وجعله غير قادر على مغادرة الفراش. وحدها عينه كانت تطالع المباني باحثة عن قبة بيضاء تسرّ قلبه وتزيل عنه الضيق والحزن، بعد أن عجز أطباء إيران عن شفائه، والتمس الشفاء في العاصمة البريطانية دون جدوى. قال له الطبيب: لا أجد لك حسب علمي ومعرفتي شفاء.. أنصحك أن تعود إلى ديارك لتموت بين أهلك.

ما بال هؤلاء المساكين يقيسون كل شيء بالمسطرة والقلم؟! لا يؤمنون بشيء وراء الجوارح؟!. لن يموت بهذه السهولة، بل سيحقق أمنية أبيه وسيزور المراقد الشريفة كما تمنى أبوه، وبعدها سيكون الموت سعادة حين يسلم الروح وهو في جوار الإمام الحسين (ع). أما إذا منّ الله تعالى عليه بالشفاء، فسيظل خادما متسكّعا حول الضريح المطهّر يلثمه وثياب من تشرّف بالزيارة، باكيا آناء الليل وأطراف النهار.

إن إيمانه بالله تعالى أكبر من أن ينال منه مرض أو فاقة، لذا ظلّ ينتظر الفرج بقلب واثق برحمة الله تعالى ومنّه وإحسانه. حتى جاءه الفرج وهو في داره وحيدا يئن ويتوجع من الألم، مقيدا بأربطة وقوالب حديدية، في المكان الذي مات فيه أبوه. يستغيث بسيد الشهداء وأمّه وأبيه والتسعة المعصومين بنيه (ع).

كان باب الغرفة مفتوحا تتبدّى وراءه شجرة وحيدة في أرض رمليه. كان ينظر إلى الشجرة واستقامتها، فيعجب من شموخها واستطالتها رغم جبروت البرد، حين شاهد رجلا يرتدي لباسا عربيا تحيط بوجهه هالة من نور إلى جانب الشجرة. حاول أن يقوم من مكانه فلم يستطع، انفجر في البكاء وخاطب الرجل قائلا:
أيها الرجل الجليل أرجوك أن تسأل الله تعالى لي زيارة سيدي ومولاي الامام الحسين (ع) لكي أطلب منه الشفاء.
اختفى الرجل فجأة كما ظهر فجأة. لكنه كان مؤمنا أن الرجل كان أحد رجال الله (الأبدال)، والمقربين منه تعالى.
حين جاءت زوجته، أخبرها بما رآى. كان سعيدا وموقنا بالاستجابة، غير أن زوجته كان تختلف عنه، مثقفة ومتدينة لكن ايمانها ناقص. فما أن ذكر لها ما رآى حتى ابتسمت ساخرة وأجابت:
ولماذا لم تدع الرجل لكي يمسح على رجليك ليعودا صحيحتين؟!
ظهر الغضب جليا على وجهه، وهمّ بتوبيخها أشد توبيخ، لكنه تراجع. إنها تحبّه وتجلّه ولم تشكو يوما أمامه ما أصاب حياتهم من تعاسة وشقاء. و الكلمات التي تتفوّه بها لا تصدر عن قلبها، بل عن لسان يحاول أن يخفّف من ثقل الهموم على نفسها الجرحى.
لم تمض سوى دقائق معدودة حين سمعوا طرقا على الباب. فتحت زوجته الباب، فوجدت رجلا وقورا ذو عينين قويتين، ناولها ظرفا وقال لها: هذا للسيد، ثم انصرف. نفّذت ما أراد وجلست بانتظار رؤية ما في الظرف.
فتح سيد حسين الظرف فوجد فيه مبلغا من المال يكفي للسفر إلى العراق حيث مراقد الأئمة الأطهار (ع)، لم يدهش، كان على يقين بأن الرجل من أولائك الذين لا يمكن اللّحاق بهم. طالع زوجته بعتاب وقال:
لم تمض غير دقائق معدودة على رؤيتي الرجل، وها أنت ترين مبلغ السفر في يدي، فما هي المعجزة إن لم تكن هذه؟! .

انخرطت زوجته في البكاء. كما هي الآن، لا تستطيع رفع عينيها عن جسمه وهو مستلق في السيارة، عيناه مبللتان بالدمع، تحسبه يبكي بفعل الألم الذي ينهش أعضاءه، غافلة عن شوق لو أخلي أمامه السبيل لنزع الأغلال وانطلق إلى مدائن من نور وبوادي في كل حبه رمل منها سبيل إلى الله تعالى، يقطعه جريا فلا يقف حتى يصل إلى الرحمة المرسلة إلى سيد الشهداء (ع).

توقّفت السيارة عند باب بيت كبير. عمارة بها مجموعة من الشقق. ترجّلت زوجته، أما هو فظل شاخصا بعينيه إلى باب العمارة التي سيسكنها. كان صاحبها بانتظارهم، فما أن علم بوجودهم حتى خرج مرحبا بهم. الحاج علي، الرجل المؤمن، تبدو عليه آيات الصلاح، جبهته عليها آثار السجود واضحة، ويمسك بيده سبحة من تربة سيد الشهداء (ع). كان رجلا واسع الثراء صاحب أملاك، وكما كان والد سيد حسين يتقرب إلى الله تعالى بإكرام كل شخص اسمه حسين، كان الحاج علي، يكرم قاصدي الحسين (ع) فلا يغالي في أسعار الإيجار رغم تنافس غيره على ذلك.

دمعت عيناه تأثرا بما لمسه في الحاج علي من روح شفافة تتوق للخير. أحسّ وكأنه التقى بالحاج علي في زمان ومكان آخرين. لا يعرف أكثر من أن هذا الحاج ليس من أهل الدنيا!.

***************

هل ترين ما أرى؟
سأل زوجته بعد أن توسّد الفراش. كانت واقفة أمام النافذة تطالع القبة البيضاء القريبة على بعدها. ألفاها تبكي بحرارة وتحاول أن لا تنظر اليه. تطلع ناحيتها باستغراب وسأل:
ما يبكيك؟!
لم تجب، اتخذت مجلسها على الأرض عند الزاوية – رغم وجود الفراش وانخرطت في البكاء.
سألها برقة:
ما بك؟ أجابت من بين شهقاتها:
أبكي لحالك.
تطلع اليها بود وأمسك دموعا حاولت النزول وقال:
ألا تؤمنين بمعجزات الامام الحسين (ع)؟ ردّت على الفور:
معاذ الله، لكنني تعبت ولم تعد لي طاقة على الصبر أكثر وأنا أراك على هذه الحالة. أجاب:
ثقي أن كل شيء سيعود الى أحسن حال. حالما نصل إلى سيد الشهداء (ع)، سأسأله أن يطلب من الله تعالى لي الشفاء، ولن يخيب مولاي –حاشاه– رجائي.

ثقته بزوجته لا حدود لها. هو مدرك أكثر من غيره أن ما أصابه كان شديدا جدا، ليس كل النساء بقادرات على تحمله. هي زوجة محترمة ومعلمة متميزة وجميلة، ولن تعدم من يطلب الزواج منها. لكنها فضلت أن تعيش معه لتربي ولده سيد أحمد.
حسبها ما هي فيه من العذاب، وحسبه ما يشعر به من عشق منّ به المحبوب عليه. حسبه أن هذا الحب في حرز حريز لا طاقة لأحد الوصول إليه. لا المرض ولا الفقر ولا آفات الدنيا ولا أحزانها قادرة على اقتلاعه من قلبه.

لن يترك لليأس سبيلا للولوج إليه. مرات عديدة حاول الشيطان أن يزيغ به عن جادّة الطريق، لكنه يرجع دائما مأفونا يجلله الخزي والعار. لماذا يستمع للشيطان؟ وهل هي إلا أيام معدودة ينتهي بعدها الى قبر، لتنطلق روحه في آفاقها لا يحدّها شيء عن لقاء الحبيب؟!.

تلك القبة يراها سيد حسين على البعد، فيشعر وكأنه لم يتعلم من الحب الا القليل. هناك من جرى في طريق المحبوب حتى قطع مسافات شاسعة، بينما هو لا يزال في أول الطريق.
ليست الحاجة الى شفاء جسمه دافعه الى التماس الدعاء من سيد الشهداء (ع)، يخطأ من يظن ذلك وأوّلهم زوجه. لم يقدم الى كربلاء لشفاء هذا الجسد المثخن بالجراح، بل لشفاء نفسه وازالة ما علق بها من أدران.

****************

قبل أن يستبين الخيط الأبيض من الفجر، تغلّب الشوق على سيد حسين فلم يترك مكانا لمشاعر أخرى. ان نارا تشب لا تترك منفذا
للهرب. استيقظت زوجته على صرخات حارة أفزعتها. قبّلت جبين زوجها وحاولت أن تخفف مما هو فيه. حسبته يطلب طبببا ينتشله من قبضة الوجع، لكنه طلب منها أن تنادي الحاج علي.

جاء الحاج علي، لم يكن مستاءا، بل كان في وقاره أشبه بالمريد الذي رسخت قدماه في سلم الصبوة، فهو كالربيع في ريحانه، سماحة وطهرا. ودون كلمة بل بلغة العين فهم ما يريد سيد حسين. حمل سيد حسين بيديه القويتين ووضعه في السيارة، وأبى أن يتركه لوحده.
إلى سيد الشهداء اتجهت السيارة. إلى حيث النور الذي طالما أحسّ معه سيد حسين وكأنه طيف لا يفارقه. تكاد روحه تترك بدنه وتطير إلى محبوبها. ليست الحياة مظاهر بل بواطن، وإذا كانت القبة تتراءى لعينية وهي في غلالتها ساطعة النور، فان ما في قلبه من النور يتصل بسلم إلى السماء. يفجر ينبوع القلب بماء يخرج من العين فيزيل وعثاء السفر وألم الجسم، ويسوق الإنسان إلى الجنة.

أخيرا.. تبّدت القبة البيضاء، موطن الحياة والأمل، مهبط أملاك الله، حلمه وحلم أبيه الذي جهد في رؤيته عيانا، ومات وعينيه شاخصتين تبحثان عن السبيل إليه. هنا يرقد سيد الشهداء. هنا النور المتفجّر من ينابيع البطولة والفداء، والشمس المشرقة بنور ربها تهدي الحيارى في ظلمات الحياة، والبقعة التي من زارها كان آمنا.

بكى لمشاعر هي من الجدّة بحيث اختلط الضحك بالبكاء. ارتفع إلى مكان أضحت فيه روحه تشمل كل ما حولها. إنها الأرض التي يقف عليها تدعو كل من تطالعه إلى الوقوف فوقها؟! إنهم العشاق الذين يبعثون من جديد خلقا آخر! إنه الحب الذي يعمر حياة ويضيء ليال، وينبت أرضا قفرا لا زرع فيها؟!.

تمت

Testing
عرض القصيدة