غريب الحلّة

قصّة قصيرة – السيد جعفر الفرزدق الديري:

مرفوعة إلى الامام موسى الكاظم(ع)

لايزال وجهه مضيئا كأنّما اشتقّ سناه من القمر. زاده جلال الموت رهبة تخشع لها الأبصار، كِشأنك حين رأيته أوّل مرّة. ولاتزال ثمة رائحة زكيّة تنبعث فتلهب قلوب المحبّين حسرة تفيض دموعا ساخنة على الوجنات؛ إن السّحابة التي أرسلتها السماء ما لبثت حتّى تفرّقت، والشعاع الذي استقر على القرية واهبا الحياة للناس وللأحياء يمّم شطره مكانا آخر، ولا شيء يعوّض عن ربيع أطلّ في غفلة الشتاء، فاستقامت الأشجار واخضر النبات وأينعت الثمار، كيف وقد بدّل قلبك وقلوب الآخرين من صحراء مجدبة إلى واحة غنّاء؟!.

من أين لهذه القرية ملاذا آمنا تركن إليه بعد هذا المسجّى؟! كان يصل بسبب لكل شبر من هذه الأرض. لم يحدث أن انقطعت بركاته أو استراب أحد في فضله، كان أشبه بربّان سفينة محمّلة بالزاد رست عند الميناء، فلم تترك أحدا دون عطاء يقيه صروف الأيام والليال.

أما أنت فتدرك جيدا من أنت بعده!. وحيد ترهقك الذكريات ملقية على كاهلك ما تنوء به الجبال. لن تعود الى سابق عهدك! وحسبك أن حظيت بصحبته طوال سنوات أربع، كنت أول من تقع عيناك عليه وآخر من يحدّثه. وإذا كان الحزن قد سرق جلّ ما أدخرت، فعزاؤك أنك أسبلت جفنيه وشممت عرفه وكنت آخر من رآه!. يا الهي! ما كان أروع ذلك البريق في عينيه، تذكّرهما جيدا؛ لقد أودع فيهما آخر وصاياه وتركك لتعيش بما تبقى من حلم.

ألا ما أغرب أمر الأيام والليالي، تجود بالقليل وتبخل بالكثير. ما أغرب السعادة تفتح ذراعيها برهة لتعاود ضمها؛ أيّ طائر سعد حلّق فوق بيتك فاختاره منزلا تأوي إليه شجنة من الرسول ص ل ى ا ل ل ه عليه وآله؟؛...

كنت على سجّادة الصلاة حين دخلت ابنتك فألقت السلام في اضطراب...
"ما ورائك ابنتي؟".
"إن بالباب ضيفا".
"فاليدخل على الرحب والسّعة".
"لكن"...
"لكن ماذا؟ ما بك مضطربة؟".
"لا أعلم... لكنه مختلف أبي؟".
"أي إختلاف تعنين؟".
"إن وجهه بهي؟!".
"وجهه بهي؟!".
"بلى.. كأنما هو فلقة قمر تكسوه مهابة وجلال".
"وأين لقيته ابنتي؟".
"كنت وخديجة نتحدث قرب البئر فأطلّ منكس الرأس وقدّم بالسلام، ثم سألني عن زعيم الحي فأتتيت به إليك!".
"نعم ما فعلت ابنتي... سأذهب لأراه"...

توقّف الزمن عند اللحظة التي فتحت فيها الباب، لم تكد عينك تقع على الغريب حتّى تمكّنت محبّته من قلبك، أحسّست وكأن أيد غير مرئيّة أخذت بقاربك المضطرب إلى الضفاف، حيث الأشياء والكائنات على حقيقتها.

كان ذلك بالأمس، أما اليوم فان الأمر سواء. لا فرق بين الليل والنهار ولا بين الموت والحياة، سوى أنها جميعا صور أخرى تضاف الى مشاهد الألم الذي يعتصر الفؤاد، فلا يتيح فرصة للراحة.

كانت رحلة شاقّة محفوفة بالمخاطر والصعاب قطعها خائفا يترقّب، انتهت عند بئر الماء. سمع عرضا ابنتك حليلته أم ف ا ط م ة تقسم بأمير المؤمنين ع ل ي بن أب ي ط ا ل ب (ع)، فأضاءت في قلبه أملا، ظهر من بين سعف النخيل واقترب مسلّما، ردّت في أدب جم...
"هل لي بسؤال أمة ال ل ه؟".
"تفضل بالسؤال".
"من عنيت باسم أمير المؤمنين؟".
"ألا تعرفه وتبدو عليك آي المهابة والإيمان؟! إنه أبو السبطين ال ح س ن وال ح س ي ن".
"هل لك أن تدلّيني على شيخ هذه الناحية؟".
"بلى... إنه أبي... تفضّل معي لنؤدي لك حق الضيافة".

لبث في منزلك أياما ثلاثة، كان آية في كل شيء، كلّما قدّمت له الطعام إعتذر بأنه صائم! أما في الليل فكانت عيناك ترقبانه قائما قاعدا راكعا ساجدا، مرتلا القرآن ذاكرا ال ل ه كثيرا.

لم تلبث وكل من في مجلسك أن وقعتم جميعا في حبّه! متمنين في قرارة أنفسهم أن لا يغادركم. في الليلة الأخيرة استأذنت عليه، وجدته على مصلاّته كأنما نور يحيط به، كان قلبك يدقّ بعنف...
"هل ستفارقنا في الغد؟".
"جزاك ا ل ل ه خيرا... لقد قمت بالواجب".
"لكننا اعتدنا وجودك؟".
"وقد أحببت صحبتكم".
"إذن لا تفارقنا.. إمكث معنا".
"على أن لا تسألني من أكون ومن أين أقبلت؟".
"لك ذلك".
"فهلا وجدت لي أي عم عملا يكون لي مغنماً؟ فما عبد ال ل ه بأفضل من العمل؟".
"وما تحسن بني؟".
"وجدت نساء يقفن عاجزات عن سقي الماء من البئر، فاجعلني سقاء تجد مني ما يرضيك إن شاء ال ل ه تعالى".
"لك ذلك أيضا".

وكان لك أنت أيضا أن تباهي السماء. فأيّ فرق بين نجوم تتلألأ فيها، وبين بيت يحتضن ذرية مح م د المصطفى ص لّ ى ال ل ه عليه وآله ونجوم الأرض من آل ع ب د الم ط ل ب؟!. كان لك أن تجد المرهم الشافي لكل آلامك. كيف لا؟! وفي بيتك جوهرة ثمينة ألقت بضيائها على بيتك وبيوت الآخرين، فازدادت الخيرات وتوسعت الأرزاق.

على أنك ملام لو تعلم! كان الحجاب على عينيك كثيفا! فلم تشاهد النور الصاعد الى عنان السماء كلّما وقف للصلاة، ولم تميز عرفه عن بقية الصالحين. ما بالك اشتغلت بالصورة عن الحقيقة؟! لماذا تركت القلائد تسقط من يديك في حمّى انبهارك بالأشياء؟!. كانت المحلة بأكملها قد تغيرت بوصول هذا الغريب، كان الناس يأتونك فرحين مدهوشين، متسائلين عن سبب الخير الذي هم فيه. لم تكن تدرك أن السر كان في بيتك، في هذا الشاب المؤمن، الذي وفد اليك مطاردا فشخصت اليه القلوب قبل العيون، لم تكن تعلم أنه القاسم بن الامام الكاظم(ع)!.

تمت
الخميس 1/12/2011

Testing
عرض القصيدة