جمرة بن الحنفية
قصة السيد جعفر الفرزدق الديري



(1)

الذكريات لم تشرد عن الذهن لحظة. إنها تتجسد صورة سوداء لم يتغير من ملامحها شيء. سواء في أوقات الصفاء التي تبدو مثل بقية الضوء في الفتيلة سرعان ما يبددها الهواء أو أوقات الشقاء التي تنيخ على الدار، فلا تترك مجالا للحياة تتمدد فيها.

الحزن لم يعد قريبا يزور الأحياء ثم يمضي عنهم لشأنه. بل ظل قائم في المكان لا يتحول، لم يترك للقلب المكدود، ولا للجسم العليل، فرصة للخلود الى الراحة. ولولا أن وهبه الله تعالى، نورا يمشي به في الأرض؛ يدلّه في الطريق ويؤنس وحشته بطيف أحبّائه، لفاضت روحه الى بارئها لهول ما يعانيه.

ثمّة جمرة تتضرم، لا يملك لنارها دفعا. كأنما سيق الى مكان، كلما دخله إنسان أحكم عليه بابه. إن الدار التي خلّت من الأحباب، ولم يعد يجول فيها سوى خيالات لمن قضى معهم الشطر الأكبر من عمره تحوّلت إلى أرض مليئة بالأشواك. ألا ما أقسى ذلك اليوم الذي ذهب فيه الحبيب بعياله ونسائه، وتركه لوجع لا يترفق به ساعة.

مرّة قاسية هي هذه الأوقات، مع جسد مثخن بكل مرض شديد. ليته نشر ولم يتأخر عن نصرة أخيه. مأ أثقلها من كلمات خرجت من فمه ولم تعد بعدها روحه اليه: إنّي والله لَيَحزُنُني فراقُك، وما أقعَدَني عن المسير معك إلاّ لأجل ما أجِده من المرض الشديد.. فواللهِ يا أخي ما أقدر أن أقبضَ على قائم سيف، ولا كعبِ رمح، فواللهِ لا فَرِحتُ بعدك أبداً!.

ترى هل شفع له المرض والبكاء الذي قرّح جفنيه؟! كانت عينا أخيه تطالعانه بمودة. وكان لسانه يقول: يا أخي، أستَودِعُك اللهَ مِن شهيدٍ مظلوم!. فيما العين شاخصة الى مكة المكرمة حيث مسرى أخيه. وهو يردد: "الحسين أعلَمُنا عِلماً، وأثقَلُنا حِلْماً، وأقرَبُنا مِن رسول الله صلّى الله عليه وآله رَحِماً".

آه من هذه الدار التي تحوّلت الى بوغاء ظل يتعثر فيها، حين وصله النذير بوصول شجنة الرسول الى كربلاء، فيما هو بالكاد يقوى على الوقوف. اللهم رضا بقضائك، يبقى هنا فيما أخوه يسير الى الموت.
طوال أيام وليال ثقيلة لا كما الصخر، بل مثل جبل جثم فوق صدره، فكتم أنفاسه. ظل يدفع عن فكره ما أخبره به سيد الشهداء بأن أوصاله: "ستقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا. لا محيص عن يوم خط بالقلم". بلى يا حسين لا محيص عن يوم خط بالقلم. لكن هذا القلب لا طاقة له على هذا الحمل، وهو عنك بعيد.

ان الحزن متى تغلغل لم يترك فرجة لفرح. وها هو نذير الحزن والجزع والمؤذن بالليالي السوداء التي لا نهاية لساعاتها أقبل فيما هو قد أنحله المرض.

ثمة أصوات كأنها براكين تتفجر، وآهات لو توزعت على كل حجر في الأرض لأسالته، ونواح يشبه صوت الرعد في ليلة شاتية. تصله فيحس معها روحه وقد بلغت التراقي.

ماذا وراءك بني.
ويقف الغلام صامتا تلجمه رهبة الموقف، وخوفه على سيده من أن تطير نفسه شعاعا.

أخبرني يا هشام، لا تخف عني شيئا.
جعلت فداك يا ابن أمير المؤمنين إن أخاك الحسين قد أتى من الكوفة وقد غدر أهل الكوفة بابن عمك مسلم بن عقيل فرجع عنهم وأتى بأهله وأصحابه.

بارق من أمل يلوح أمام بن الحنفية، لكن عساه أن لا يكون برقا خلّبا! ان جيش الخطوب هذا طالما حاصره وسد أمامه الضوء.

لم لا يدخل عليّ أخي؟
ينتظر قدومك إليه
نهض فوقع: وجعل تارة يقوم، وتارة يسقط. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ان قلبه يشعر وكأنها مصائب آل يعقوب تنتظره.



(2)

هذه الفرس لا تسعف هذا العطشان. ودّ لو يطير الى مقصوده. ظاميء هو لواحة لا يردها أحد ويرجع صاد. فكيف وهو الذي تحمّل ما تحمّل في سبيل أن يحظى بنور العين وشجرة القلب؟! كل الفضاء حسين. الماضي والحاضر هو الحسين.

إن كلمات أبيه تلوح زكية بالطيب، تكاد لا تتبدل محاسنها. وأي شيء أجلّ منها وقد كانت تصله وهي في رونقها: أُوصيك بتوقير أخَوَيك؛ لعِظَم حقِّهِما عليك، ولا تُوثِقْ أمراً دونَهما.

أبوه الذي يعرف به المؤمنون من المنافقين، كان أدرى بما في قلبه من حب لا مزيد عليه لأخويه. وعندما أوصى أخويه به وهو يجود بنفسه: "أُوصيكما به؛ فإنّه أخوكما وابن أبيكما، وقد كان أبوكما يُحبّه". كان يدرك معنى أن يشمل سيدا شباب أهل الجنة أخيهما بالتوقير.

تراءت له في تلك الساعة، تلك الملحمة التي سطرها أبوه. الجيش العظيم، يلتحم بالجيش العظيم في وقعة الجمل. كان أخويه يندفعان للحرب، فيسارع أبوه ويصيح: أمسكا عني هذين الغلامين، لكي لا ينقطع بهما نسل رسول الله. فيما يعطيه الراية وهو يقول له: "تَزول الجبالُ ولا تَزُل، عَضَّ على ناجذِك، أعِرِ اللهَ جُمجمتَك، تِدْ في الأرض قدمَك، إرمِ ببصرِك أقصى القوم، وغُضَّ بصَرَك، واعلمْ أنّ النصر مِن عندِ الله سبحانه".

ما الذي كان يدور بخلد أولائك وهم يسألونه: "لِمَ يغرر بك أبوك في الحرب، ولا يغرر بالحسن والحسين؟" لماذا يغرر به أبوه؟! إنّهما عيناه، وهو يمينه، فأبوه يدفع عن عينيه بيمينه. أما هو الذي أدرك أي سماء يرتفع إليها أخويه، فلم يحدث قط أن تكلم أمامهما إعظاماً لهما.

لم يرى في الدنيا بعد أبيه مثالا للحسن والحسين. هذا امامان قاما أو قعدا، تتجلى فيهما النبوة بأجلى معانيها؛ عبودية لله، زهداً، علما، حكمة، سخاء، شجاعة، إباءا، مقاومة للظلم واستهانة بالقتل في سبيل الحق والعز.

نفس عالية وهمة سامية ومنوال ينسج عليه الأبطال في كل عصر وزمان. هو ما تراءى للناس في الحسن والحسين. كانت مواقفهما جديرة بأن تضرب بهما الأمثال وتسير به الركبان.

ان سنوات العمر تقاس بالسنوات التي حظي فيها برفقة أبيه وأخويه، أما بعدهم فلا حياة ولا أمل. وآه آه، من يوم شهد فيه كبد أخيه أبو محمد الحسن، يخرج من فيه قطعة قطعة.. كان في بستانه حين ناداه أحدهم بأن أخوه الحسن يطلبه. كانت ثمة رائحة عطرة تصل بينه وبين أبا محمد. سارع اليه لكن كل شيء يمر به يجده وقد تحول الى موات بعد أن كان في عنفوانه. حتى التراب من تحت قدميه كأن يبكي، حتى البيوت التي يصادفها يكاد بياضها يتحول الى سواد. إن ما يحدث أمر جليل، لا شك في ذلك، يكاد يتفجر قلبه لهوله.

حين وصل الى الدار، رآى قمرا على يمين قمر، غير أن الحسن، يوشك أن يجيب داعي الله. جلس الى يساره، وكأن الزمن انقطع لحظتها. لم يكن يعي سوى كلمات أخيه تصل الى سمعه، فتشل ما عدادها: "يا أخي، أُوصيك بمحمّدٍ أخيك خيراً؛ فإنه جِلدةُ ما بين العينَين". ثمّ خاطبه قائلا: "يا محمّد، وأنا أُوصيك بالحسين، كانِفْه ووازِرْه. يا محمّد بن عليّ، أمَا علمتَ أنّ الحسين بن عليّ بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسمي، إمامٌ مِن بعدي... يا أخي، إنّ هذه آخر ثلاث مرّاتٍ سُقيتُ السمّ ولم أُسقَه مِثْلَ مرّتي هذه، وأنا ميّتٌ مِن يومي".

ليته سقي السم، وتجرع غصصه، مرة بعد مرة. كان ذلك أهون عليه من فراق سبط رسول الله وبن بضعته وأشبه الناس به. رحل ابن بنت رسول الله الى الملكوت الأعلى، فتضاءلت الدنيا بعيني محمد وانتهت الى لا شيء. ماذا يتبقي في الحياة حين تغيب الشموس التي تضي دياجيها؟!. شارك أخوه الحسين في إدخال المجتبى قبره، ووقف على شفير القبر وقد خنقته العَبرة فقال: رَحِمَك اللهُ يا أبا محمّد، فلئن عَزَّتْ حياتُك، فلقد هَدَّتْ وفاتُك، ولَنِعمَ الروحُ روحٌ ضمّه بدنُك، ولَنِعمَ البدنُ بدنٌ ضمّه كفَنُك.. وكيف لا يكون ذلك وأنت بقيّةُ وُلْد الأنبياء، وسليلُ الهدى وخامسُ أصحاب الكساء، وغَذَتْك أكُفُّ الحقّ ورُبّيتَ في حِجْر الإسلام، فطِبْت حيّاً وطِبْتَ ميّتاً، وإنْ كانت أنفسُنا غيرَ طيّبةٍ بفراقك..".

لم يكن لأوردته أن تستمر في جريانها بعد فقده ريحانة الرسول لولا أن هناك من يمدّها بالحياة. الحسين أخوه وامامه والعوض عن الأحبة. طالما هو موجود فلا شيء يهم على رغم غصّة الفراق وكآبة الأيام والليالي.

لم يترك لحظة دون أن يتزود بوجوده، والنور الذي يمشي الى جانبه. حتى اذا ذهب لميقات ربه. ظل يعيش على أمل اللقاء به. تتمزق روحه بين خوف لا حد لغربانه ينذرونه بفراق لا لقاء بعده، وبين عصافير رجاء ينشرون حوله من الأمل ما يقيم نفسه.

كانت عينا محمد تتفجران بالدمع وقد تمثلت أمامه صورة أخيه الحسين مثال أعجز العالم أن يشابهه أحد أو يضاهيه. مثال لا يشك لحظة في أنه سيبقى خالدا ما بقي الدهر، محيرا للعقول مذهلا للألباب مدهشا للقلوب.

كان ولاؤه واعتقاده بالحسين لا مزيد عليه. غير أن خروج الامام الى كربلاء. كان ايذانا بذهاب أيام السرور واقبال أيام الحزن. اهتز كيانه، وبدأ القلق ينتابه والأسف لعدم قدرته على الذهاب معه.

تحير في أمره حين أخبره سيد الشهداء بأنه مأمور من قبل جده رسول الله صلى الله عليه وآله في رؤيا رآها أن يخرج مع أهل بيته إلى كربلاء. كان يعلم أن الحسين امام معصوم له تكليفه الالهي، وانه لم يقم بنهضته الا بناءا على أمر الله تعالى. الا انه لم يتحمل فراقه. فضلا عن سماع نبأ استشهاده. لكنه أسلم أمره، بعد أن أوضح له سيد الشهداء حقائق الأمور. لينطلق ابن أبيه الى كربلاء. ويظل مترقبا خائفا أن يسمع بمصيبة أحاطت الحسين أو فاجعة يقشعر لهولها جسمه المجهد.



(3)

كان قد وصل الى خارج المدينة، حين أحسّ بالذهول. أعلام سوداء تلوح أمامه، وبكاءً ونياحةً وعويل. أواه لو أن المحظور وقع!. أواه لو قتل بنو أمية الحسين. صاح صيحة عظيمة "واحُسينا، واخليفةَ الماضين، وثُمالةَ الباقين". وخر عن جواده إلى الأرض مغشيا عليه.

عندما أفاق، وجد رأسه في حجر زين العابدين. كان خادمه قد ركض إلى الإمام زين العابدين وقال له: يا مولاي أدرك عمك قبل أن تفارق روحه الدنيا. وخرج زين العابدين وبيده منديل يمسح به دموعه إلى أن أتى عمه فأخذ رأسه ووضعه في حجره.

عرف الأنبياء والأوصياء، هو ما عرّفه بابن أخيه. تطلع اليه بضعف لا يكاد معه يقوى على فتح عينيه: يا ابن أخي، أين أخي، أين قرة عيني، أين نور بصري، أين أبوك، أين خليفة أبي، أين أخي الحسين؟. جرت مدامع السجاد تحفر في الخدود سبلا تنبىء بأي خطب جلل وقع. أجابه والحوادث التي قاسى أهوالها تطل برأسها: يا عماه أتيتك يتيما ليس معي إلا نساء حاسرات، في الذيول عاثرات ناعيات نادبات، وللحامي فاقدات. يا عماه لو تنظر إلى أخيك يستغيث فلا يغاث، ويستجير فلا يجار، قتل عطشانا، والماء يشربه الحيوان.

صيحة أخرى وغشيان عن الوجود. أي أمر هو أجلّ من هذا الأمر. قتل الحسين وسبيت نساؤه، وها هو الامام السجاد يعود بالنساء دون الرجال. وباليتامى دون آبائهم. أي معنى أوقر في الذهن من مصرع الحسين؟!. ستظل الحسرة تأكل هذا المحب، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. وتبدو الأشياء على غير هيأتها الى أن يختار الله له ما اختار الى أخيه وسيده ومولاه.

تمت

Testing
عرض القصيدة