شعراء أهل البيت عليهم السلام - الزيارة الجامعة (قصة قصيرة)

عــــدد الأبـيـات
0
عدد المشاهدات
2668
نــوع القصيدة
فصحى
مــشــــاركـــة مـــن
تاريخ الإضافة
19/11/2011
وقـــت الإضــافــة
1:20 مساءً

(850)

الزيارة الجامعة ... من كرامات مولانا صاحب العصر والزمان (عج)

قصة قصيرة – السيدجعفر الفرزدق الديري:

مهداة إلى سيدة نساء العالمين عليها السلام

القافلة تسير إلى "طرابوزن"، الطقس شديد البرودة، يتساقط ثلجه، فيما الشمس توشك أن تشقّ ستار الليل.

مسافرون ثلاثة، يتبادلون النظرات، متفحّصين سيد أحمد الرشتي. لم يحاول أيّ منهم إعادة السؤال، بعد أن فضّل السكوت، واختار مؤخرة القافلة.

إن الحزن الذي يكسو وجه السيد، جديد عليهم. كان قبل ساعات، بشوشا طلق الوجه، حين تصاحبوا حتى بلغوا "ارزنة الروم"، قاصدين طربوزن، لكنه يبدو الآن مرهقا، كمن ينوء بحمل ثقيل.

لم يكن لأيّ من الثلاثة، إدراك ما في قلب السيد، كان يجدّف في السماء، يلتقط الكواكب والنجوم، ويغوص بين المجرّات... لا تزال الوصايا تتوهّج في قلبه، بانتظار الإفضاء بها إلى حملة العلم... أمّا (الفلاح)، فنور يمشي به في الأرض، يحتوي النفس كموج البحر، فلا يترك منفذا لسواه.

تذكّر السيد ليالي السهاد، وشوقه إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وقبور أئمة البقيع عليهم السلام، تذكّر حنينه إلى روضة الزهراء ما بين القبر والمنبر، تحفّها الملائكة مسبّحين مهلّلين، مستغفرين لزوّارها.

كان ينتظر اللحظة التي يأذن الله تعالى فيها بالسفر، وتيسر ذلك في شتاء 1820. كان السفر يعني طريقا شديد البرودة، محفوفا بالصعاب، والخوف من قطّاع الطرق، لكنه وقد تملكه الشوق، لم يجد مناصا دون إشباعه، وإذ أدّى ما عليه من حقوق للناس ولأهله، غادر مدينة "رشت" إلى "تبريز"، آملا أن يجد قافلة متجهة إلى الحج، أو إلى منزل من منازل السفر الطويلة.

غير أن الأمور لم تجر وفق ما أراد، فبعيدا عن أهله ومسقط رأسه، مكث السيد مدة من الزمن في دار التاجر الحاج صفر علي التبريزي، في انتظار القوافل، وقلبه يشتعل كأتون من نار لفرط التفكير في عائلة تركها لوحدها، وأمنية لم تتحقق بعد. حتى جاء الفرج على يد الحاج جبار الرائد جلودار السدهي الأصفهاني، حين جهّز قافلة إلى طرابوزن، فاكترى منه السيد مركبا، ومضى مع القافلة مفردا دون صديق.

عناية الله تعالى يسّرت للسيد رجال ثلاثة التحقوا به، في أول منزل من منازل السفر، كان قد رغّبهم في ذلك الحاج صفر، وهم المولى الحاج باقر التبريزي الذي كان يحج بالنيابة، والتاجر الحاج سيد حسين التبريزي، وعلي الذي كان يخدم فتصاحبوا في الطريق.

كان الأربعة يسيرون مبتعدين عن القافلة غالبا، الأمر الذي لفت نظر الحاج جلودار، فحذرهم من التخلف عن الركب، امتثل السيد ومن معه لنصيحة الحاج جلودار، واستأنفا المسير معا قبل الفجر بساعتين ونصف أو بثلاث ساعات، غير أنهم وما أن قطعوا نصف فرسخ أو ثلاثة أرباعه حتى أظلم الجو وتساقط الثلج، بحيث بادر كل واحد منهم إلى تغطية رأسه بما لديه من الغطاء وأسرع في المسير. أما السيد فلم يسعه اللحاق بهم رغم اجتهاده في ذلك، فتخلف عنهم وانفرد بنفسه في الطريق.

تذكر السيد كل ذلك، والليل والوحشة والطقس الشديد البرودة، وحيرته في أمره. إن هيئته هيئة مسافر، ووحوش الإنس لا تترك إنسانا هنا إلا ونهشته. وهو وحيد في هذا الخلاء، معه مبلغ السفر 600 تومان إيراني.

لم يجد السيد مناصا دون النزول عن ظهر فرسه، والجلوس في ناحية من الطريق، مضطرب البال غاية الاضطراب. كان يطالع السماء بعينين دامعتين ونفس توّاقة إلى الحج والتقرب إلى الله تعالى، فهو لا يبرح رافعا يديه بالدعاء، يسبّح تسبيح الزهراء عليه السلام، ويطالع الخلاء وامتداده أمام ناظريه. حتى استقر رأيه على أن لا يبرح مقامه، حتى يطلع الفجر ثم يعود إلى المنزل الذي بات فيه ليلته الماضية، ثم يرجع ثانية مع عدة من الحرس فيلتحق بالقافلة.

كان ذلك ما فكّر فيه السيد ساعتها، غير أن ما شاهده لم يكن ليخطر على باله، رغم الليل والثلج، لمح على البعد بستانا وفلاحا بيده مسحاة، يضرب بها فروع الأشجار، فيتساقط ما تراكم عليها من ثلج، كان ذلك أمرا غريبا!.

جدّ السيد في سيره حتى بلغ الفلاح، رآه رأي العين يكسر الثلج بالمسحاة، لكنه لم يدرك أفي الأرض أم في السماء. ثمّة نور لا يترك للنفس اختيار طريقها، إنها تسيل إلى الفلاح كجريان ماء في نهر...

من أنت؟

حاج تخلّف عن الركب ولم يهتد للطريق
عليك بالنافلة لتهتدي.

كان السيد موثقا أمام الفلاّح، إنصاع لأمره، وسارع إلى أداء النافلة، حتى إذا فرغ من التهجد قبع في مكانه...

ألم تمض بعد؟
والله لا أهتدي إلى الطريق
عليك بالزيارة الجامعة الكبيرة.

لم يكن السيد حافظا للزيارة، ولا قادرا على قراءتها، لكنه ما ان وقف قائما حتى شعر، وكأن ملكا كريما يرفرف بأجنحته عليه، يلقي في قلبه الزيارة، ردّدها كاملة عن ظهر قلب، امتلأت عيناه دمعا، وتفجر قلبه حمما، شعر معها وكأن البرد والثلج لا طاقة لهما على جسمه.

ألم تبرح مكانك بعد؟
لا أعرف الطريق
عليك بزيارة عاشوراء.

عاشوراء!... صوت يخترق السماء، ينادي يا حسين. وبساط من نور يقبل من بعيد، ناثرا على اليمين والشمال، أزهارا تتفجر، وروح السيد تترك مكانها، تتعلق بالبساط، وتسافر إلى عرصات الطف. كل ذرة من جسمه تصرخ يا حسين. يقرأ الزيارة كاملة عن ظهر قلب، رغم أنه لم يكن يحفظ حرفا منها، حتى إذا انتهى منها، أفاق على صوت الفلاح...
ألم تنطلق بعد؟
سأبقى هنا إلى الصباح
أنا الآن ألحقك بالقافلة.

كيف حدث ذلك؟ أمر لم يجد له السيد تفسيرا، كانت القافلة بعيدة والظلمات تملأ المكان، فكيف يمكن أن يهتدي إنسان، إلى قافلة بعيدة لا سبيل واضح إليها؟!.

كانت الكلمات الأخيرة التي طبعت على قلب السيد، قبل أن يجد أصحابه وقد وردوا النهر يتوضئون لفريضة الصبح، وصايا الفلاح:

لماذا لا تؤدون صلاة النافلة... النافلة... النافلة؟ لماذا تتركون زيارة عاشوراء... عاشوراء... عاشوراء؟ لماذا لا تزورون بالزيارة الجامعة الكبيرة... الجامعة... الجامعة؟.

تمت

* أصل القصة: كتاب مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي قدّس سره
Testing