يا إمام الأحرار - في وفاة أمير المؤمنين (ع) السيد محمد حسين فضل الله
ألقيت في حفلة ذكرى استشهاد الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في بلدة بنت جبيل _ لبنان 30 نيسان سنة 1956/19 رمضان 1376.
يا إمام الأحرار في وفاة أمير المؤمنين (ع)
منك.. من وحي فجرك المسحورِ=ينتشي الشعر بالندى والعطورِ
حالماً، ينهل الوداعة، في دفء=المعاني وفي سموّ الشعورِ
ويزفّ النجوى، ونهجك يهديه،=فيستلُّ روعة التصويرِ
ويكاد الخيال، ينبض بالروح،=إذا لُحت في حنايا الضميرِ
أنت أُنشودة الذرى، من رأي=الفجر، وقد فاض بالشعاع الطهورِ
حضنتها الحياة، وانطلق الخلد،=يوشّي بها حديث الدهورِ
وأنا ها هنا: التفاتٌ إلى الذكرى،=فنضّر بوحيها تفكيري
علّني أقطف النجوم، فأجلو=_ عبر أضوائها _ طريق العبورِ
يا نجيّ الذرى.. ويا باعث=التاريخ نوراً في وحشة الديجورِ
جئت، والوحي برعمٌ لم تفتَّق=عنه أوراق حلمه المنثورِ
والصبا مائجٌ بعينيك وثّابٌ=إلى جدول الحياة الكبيرِ
والأماني.. في جانبيك عذارى=يترقبن ساعة التطهيرِ
ليمزّقن ظلمة الليل في عنف..=ويبعثن صرخة التكبيرِ
فجأةً.. واستفاقت الأرض ترنو=في ذهول إلى نداء النذيرِ:
أيها الناس، حطِّموا القيد عنكم=وأجيبوا طلائع التحريرِ
أنا ما جئتكم لألتمس العز=لديكم.. في كبرياء الأميرِ
أنا منكم.. من طينة الأرض..=لكني رسول من الإله القديرِ
أيّها الناس: لا إله سوى الله..=وليّ الإيجاد والتدبيرِ
فتعالوا ننضِّر الأفق بالألطاف..=رمزاً لروعة الدستورِ
وانبذوا عنكم.. أساطير ماضيكم..=وكفُّوا عن ترّهات الأمورِ
لتزفُّوا في روعة الفجر.. دنياً=حرة الفكر.. حلوة التعبيرِ
واستداروا عنه يقولون همسا=ما لهذا اليتيم.. كالمسحورِ
عجباً يبتغي السيادة فينا=بالخرافات.. حسبه من غرورِ
فتحدَّيتهم.. وعانقت وحي الله=حباً.. في نشوة وحبورِ
وبدأت انتفاضة الفجر.. واقتدت=السرايا.. إلى نداء الأخيرِ
وإذا بالنبيّ يهتف بالدنيا=عليّ خليفتي ووزيري
يا إمام الأحرار حطَّمتَ أصنام=الدياجي.. بخاطرٍ مستنيرِ
وحملت الضحى بكفيك.. ينبوع=حياة.. خفَّاقة بالعبيرِ
يمرح النور.. في غلائلها=الخضر.. رقيقاً.. كهينمات الغديرِ
وعلى روحك التماعة وحيٍ=وانطلاق لعالَمٍ مسحورِ
لا ترى حوله سوى خفقات الخلد..=في نشوة الربيع النضيرِ
وصلاة الحياة.. في معبد النور..=على مشرق الصباح القريرِ
وعناق الأرواح _ والدين يحدوها=إلى الفجر في انطلاق المسيرِ
هادئاً يبعث الحقيقة وحياً=عبقرياً.. أصفى من البلورِ
أيها الناس وحَّد الحب نجواكم..=فسيروا إلى اتحاد المصيرِ
بين روح تقبّل الجرح أشفاقا..=وروحٍ تزف وحي النورِ
فطريق النضال وعرٌ إذا لم=يملأ الحب أفقه بالزهورِ
وجرى الركب.. وانتخى النصر=في كفيك.. زهوراً بالقائد المنصورِ
وإذا بالحياة.. تستقبل الفجر=على ضوئه بوحيٍ منيرِ
ويقولون... والسياسة ألوانٌ=من الختل والخنا والفجورِ
وفنونٌ.. من زائف القول يمليها=صراع القوى وراء الستورِ
وصراعٌ.. يصوّر الجور عدلا=يتغنى به فم الجمهورِ
وأحابيلُ: ينسج المكر نجواها..=فيجتاح هدأة العصفورِ
إن دنياك _ وهي بنت السماء=البكر.. في زهو مجدها الموفورِ
لم تكن تعرف الطريق إلى=الحكم.. لتحتل ذِروة التقديرِ
في صراعٍ تُبدي السياسةُ في=نجواه شتَّى عوامل التغييرِ
ويقولون: إن طاغية الشام=تسامى بفكره.. المصهورِ
وجرى في الطريق.. تحتضن=الشعب أياديه بالعطاء الوفيرِ
فتخلفَّت _ يا لمهزلة التاريخ _=عن خطوة الجريء الخطيرِ!
ويقولون.. والحكايات شتى=وحديث البهتان غير عسيرِ
وتقول السماء.. دنياك أسمى=من تهاويل عالم مغمورِ
أنت رمز الخلود إن حطّم=التاريخ أصنام مجده المبتورِ
كيف ترضى للعدل أن يصبغ=المكر أحاديثه بخزي الضميرِ
وهو رمز الحياة في كل أفق=وصدى الوعي في ضمير العصورِ
أنت لو شئت كنت داهية الدنيا..=ولو شئت كنت ربَّ الأمورِ
إنّ عقلاً يناطح الشهب بالفكر..=ويسمو بمعجزات الدهورِ
لقديرٌ أن يرسم الخطط الكبرى..=بوحي الخداع والتزويرِ
غير أنَّ الدين الذي فجَّر الينبوع=بالطهر في حنايا الصدورِ
يمنع الفكر.. أن تشوِّه وجه=الحق فيه نوازع التغريرِ
فتساميت ثم حلَّقتَ روحاً=عبقريا.. منضَّرا بالنورِ
تُبدع العدل جوهراً لم تؤثر=فيه شتّى عوامل التأثيرِ
وتثير النعمى ربيع حياة=تتلاقى على ضفاف الغديرِ
أنت للخلد.. عشت في فجره=الحر.. وما زلت غامض التفسيرِ
يشمخ الخلد أن يراك رفيقاً=خالداً.. في لوائه المنشورِ
فتباركت من إمامٍ يعبُّ الخلد=من روحه صفاء النميرِ
فليقولوا من يشتهون، فأعداؤك=في غمرة الفنا والدثورِ
يا إمام الأحرار.. لم يعد=الدين.. بأعماقنا انطلاق شعورِ
يلهب الشوط بالحياة ويقتاد=السرايا إلى النضال المريرِ
انه عاد باهتاً.. لا نرى فيه=سوى خفقة النزاع الأخيرِ
وهو وحي النضال في كل درب=وهو نور الحياة في الديجورِ
وهو رمز الحقيقة البكر..=ان عدنا نغذي كياننا بالقشورِ
وهو تاريخ أمّةٍ لم يحررها=سوى زهو مجده المأثورِ
إنه زورق الحياة إلى الشاطىء=إن دمدمت رياح الشرورِ
انه الكوكب الذي ينثر النور=حياةً على الجناح الكسيرِ
ويشد الخطى الهزيلة إن=زلّت بروحٍ جيَّاشة التفكيرِ
إنه لم يعد كما كان.. رفافاً=بوحيٍ من النداء الطهورِ
شوَّهت روحه المطامع.. واجتاحت=سراياه عاديات المصيرِ
واستثار الضباب آفاقه=البيض بأنفاس عالم مخمورِ
فتنفَّس عليه. بالنور وابعثْ=في حناياه زغردات النشورِ
وانطلق في رحابه شعلةً تضرى=فتجتاح كبرياء القصورِ
لتعود الدرى الفساح _ كما=كانت مع الدين _ ملعباً للنسورِ
وأنا حسب خاطري روعة=الذكرى.. وذوب السنا.. ونفح العبيرِ