قصيدة لسماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، نظمها في النجف الأشرف في الخمسينات من القرن العشرين الميلادي بمناسبة يوم الغدير (18ذو الحجة).
ذكرى الغدير
رقَّت فداعبها خيالٌ أزهرُ=وصبت فسال بدمعتيها الكوثرُ
وغفَتْ على نَغَمِ العواطفِ في الهوى=فمضَتْ تبثُّ لها الغرامَ الأسطرُ
عودٌ تخيَّرها الخيالُ يراعةً=للشعرِ يلهمُها البيان فتسطرُ
تتفجَّر الأوزانُ من أعماقِها=فيسيلُ من بين القوافي عبقرُ
ظمئَتْ فأرضَعَها الولاء (محمدٌ)=وجرَتْ فأرْشدَها الحقيقةَ (حيدرُ)
فتراقَصَتْ طرباً على لحنِ الولا=ومضَتْ بآياتِ الغديرِ تبشرُ
عيدُ الغديرِ وأنت فجرُ حقيقةٍ=نُشِرَتْ فخلَّدَها الكتابُ الأطهرُ
تتمايلُ الأرواحُ في أنسامِهِ=فتروحُ تعبقُ بالشّذى وتعطرُ
وترفرفُ الأطيارُ في أغصانِه=طرباً وكلٌّ ضاحكٌ مستبشرُ
حتى الملائكُ أقبلَت في موكبٍ=للحقِّ ترتشفُ الولاءَ فتسكرُ
عيدُ الغديرِ وأنت سرٌّ خالدٌ=يوحي لنا الحق الصراحَ وينشرُ
نثرَتْ لك الأسحارُ من نسماتِها=درراً بآياتِ الصباحِ تنورُ
وهفَتْ لك الأرواحُ حيثُ تطلَّعَتْ=للحقِّ يملأُ جانبيْك ويغمرُ
حدِّثْ فأنت من الزمانِ لسانُه=وأبِنِْ لنا الأحداثَ كيف تصوَّرُ
وارسمْ لنا صورَ الغديرِ فطالما=جهلتْ به فئةٌ وضلَّ مصوّر
فلقد طغَتْ فوقَ المشاعرِ موجةٌ=للجهلِ تنذرُ بالفسادِ فتهدرُ
غمرَتْ عقائدَنَا بسيلٍ جارفٍ=مما رآهُ وبثَّهُ المستعمرُ
عيدُ الغديرِ وما تزالُ حثالةٌ=في العصرِ تنهى ما تشاءُ وتأمرُ
نظرْت إلى التاريخِ في ظلماتِه=نظراً تكادُ به الحقيقةُ تسفرُ
فإذا الغديرُ يشعُّ فوقَ سمائِه=والقدسُ من أنوارِه يتفجَّرُ
لكنَّها والجهلُ ملءُ إهابِها=والحقدُ يغلي في الصدورِ ويسعرُ
راحَتْ تبثُّ سمومَها ممزوجةً=بالشَّهدِ في فكرِ الشَّبابِ وتنشرُ
برَّاقةً بالمغرياتِ مليئةً=بالمخزياتِ وبالهدى تستهترُ
ومضَتْ تحرِّفُه على ما تشتهي=أحلامُها ممّا تحسُّ وتبصرُ
فتولَّدَتْ من بينِ ذلك نزعةٌ=أمويّةٌ فيما تراهُ وتنظرُ
عيد يسيلُ القدسُ من جنباتِهِ=ألقاً فيغمرَ صفحتيْه الكوثرُ
شمسُ الرسالةِ في سناها قطبُه=وهدى الإمامةِ في سناها محورُ
جمحَتْ بي الأفكارُ في صحرائِهِ=والنارُ في أحشائِها تتسعّرُ
والشَّمسُ تسكبُ من سناها خمرةً=في مبسمِ الأفقِ الجميلِ وتقطرُ
والأرضُ وهي مجامرُ مملوؤةٌ=حمماً تثورُ وبالصواعقِ تنذرُ
تبدو كأحداقِ الصباحِ توقَّدَتْ=جمراً يموجُ كما تموجُ الأبحرُ
فرأيتُ أحداجاً تصفِّف منبراً=أسمى من العرشِ الرفيعِ وأنظرُ
رفَّت عليه من القداسةِ هالةٌ=للحقِّ يغشاها الجلالُ فتزهرُ
وإذا بأحمدَ يرتقي أعوادَه=فيكادُ من طربٍ به يتكسَّرُ
(ولو أن مشتاقاً تكلف فوقَ ما=في وسعِه لسعى إليه المنبرُ)
والمسلمون وحسبهُم إيماءةٌ=من أحمدَ مما يقولُ ويظهرُ
يتهامسون وفي القلوبِ تساؤلٌ=وعلى الوجوهِ تساؤلٌ وتحيُّرُ
ماذا يريد بنا النبي (محمدٌ)=والكونُ يلهبُ والعواصفُ تهدرُ
والصمتُ ضاقَ بهم فأطلعَ صورةً=للحق يرسمُها النبي المنذرُ
خفقَتْ لها الأرواحُ في أعماقِها=وتلاقفَتْها للخلودِ الأعصرُ
يبدو بها نصُّ الغديرِ مبيِّناً=أن الوصيّ هو الزعيمُ الأكبرُ
وترى بها علمَ الولاءِ يهزُّهُ=الهادي وينشرُهُ الكتابُ الأطهرُ
والمسلمون فمستظلٍّ تحتَهُ=يجري وآخرُ في الضلالةِ يخطرُ
وهناك يظهرُ في الطليعةِ أحمدُ=ويعودُ حيث يُطلُّ منها حيدرُ
يا سيِّدي والحق وهْوَ أشعةٌ=من لطفِ روحِكَ حرّةً يتفجَّرُ
تتموّجُ الأفكارُ فيه فموجةٌ=تطغَى عليه وموجةٌ تتأخرُ
وترفرفُ الأرواحُ فوقَ سمائِه=ظمأى فتنهلُ من رواه فتصدرُ
والناس والأوهامُ تلعبُ دورَها=فيهم قطيعٌ في الفلا متحيِّرُ
جَحَدوا الحقيقةَ وهي في إشعاعِها=أزهى من الفلكِ العظيمِ وأظهرُ
وتجاهلوا نصَّ الغديرِ ففرقةٌ=منهم تحرِفُهُ وأخرى تُنكِرُ
لكنَّهم نظروا هناك فأبصرُوا=نوراً يشعُّ من الغديرِ ويُزهرُ
وتطلّعوا للنورِ وهْوَ ذبالةً=شعَّتْ فسارَ على هداها الأكثرُ
فإذا (عليٌ) والهدى في موكبٍ=للحقِّ ينذرُ بالهدى ويبشِّرُ
والوحيُ في طربٍ يوقِّعُ نغمةً=علويةً فيها النفوسُ تموّرُ
يبدو فيخرجُ للحقيقةِ صورةً=تجْلىَ على لوحِ الخلودِ وتنْشُرُ
يتلو بها سورَ الكتابِ مليئةً=بهدى (عليٍّ) وهْوَ صبحٌ مسفرُ
اليومَ أكمَلْتُ الرسالة فيكمُ=لَوْلا الوصيٌ ففي هداه تبصَّروا
يا سيدي شكوى إليك يبثُّها=حُصَّّتْ قوادمُه وضلَّ المنذرُ
ومضَتْ به الأطماعُ في شهواتِها=فالدِّينُ من شهواتِها يتأخَّرُ
ومشَتْ به فئةٌ فذاكَ مداهنٌ=فيه وهذا جاهلٌ ومقصِّرُ
وتلاقفَتْه يدُ النفاقِ فتارةً=تبني وطوراً بالفسادِ تدمِّرُ
وتبدَّلَتْ نظمٌ وجاءت أعصرٌ=تزهُو فتدعو بالصلاحِ وتهدُرُ
فإذا بهذا الدِّينِ لعبةُ لاعبٍ=والحقُّ مهزلةٌ به يُستَهتَرُ
والأجنبيُّ يدسُّ فيه مبادئاً=منه تعيثُ كما يعيثُ المنكرُ
ويبثُّ فيه من التفرقِ بذرةً=تنمو على مرِّ الدهورِ وتكبرُ
تنمو على مرِّ الدهورِ وتكبرُ=ويعودَ نحوَ جموعِنا فيسيطرُ
والمصلحونَ وهم نيامٌ لا تَرَى=فيهم فتى بشقا الشعوبِ يفكِّرُ
يتقلَّبونَ على الحريرِ وعندَهمْ=شعبٌ يفيضُ البؤسُ منه ويزخُرُ
الخائنونَ وينكرونَ بلادهمْ=هذا يسلِّمها وذا يستعرُ
والبائعونَ ضميرَهم بدراهِمَ=تغري النفوسَ ضعيفةً وتغيِّرُ
والشاربونَ من المدامةِ خمرةً=تُغلَى بأكبادِ الشعوبِ وتُعصَرُ
والمرتقون كراسياً منصوبةً=باسمٍ الرّعاةِ وبالمظالمِ تنجرُ
أيها أميرُ المؤمنين وشرعة=قد كنْتَ ترأب صدْعَها وتأمُرُ
جاءَ النبيُّ بها فوحَّد أمَّةً=عمياءَ لا تُهدَى ولا تتبصَّرُ
فمضَتْ تزيِّنُها العقيدةُ مبدأً=والحقُّ تاجاً فوقَ رأسِك يظفرُ
والدِّينُ قانوناً تسيرُ بضوئِهِ=قُدُماً فيهديها الطريقَ فتبصرُ
حتى إذا رجعَتْ بها أحلامُها=للخلفِ عادَتْ في الضلالةِ تخطرُ
ومضَتْ يدُ التفريقِ تلعبُ دورَها=فيها وتخلطُ صفْوَها فتكدَّرُ
ومبادئ الإلحادِ وهي مليئةٌ=بالمغرياتِ مضَتْ تعجُّ وتهدرُ
والمسلمونَ ولا ترى من رايةٍ=فيهم ترفرفُ بالإخا وتبشرُ
عبثَتْ بهم كفُّ العدوِّ فأصبحوا=للثائرين غنيمةً تُستصغَرُ
وتطلَّعَتْ من بينِهم قوميةٌ=عصبيةٌ تردي الإخا وتدمِّرُ
قوميةٌ عصفَتْ بنا فتفرَّقَتْ=منا الصفوفُ بها وضلَّ الأكثرُ
فكأنَّ في النسبِ المعقّدِ نسبةً=أعلى من الدِّين الحنيفِ وأطهرُ
أو أن في الأمجادِ منها مفخراً=أسمى من التقوى بها أو أف(..)
كلاَّ ففي الإسلامِ خيرُ موحَّدٍ=فينا وفي التقوى نعزُّ ونظهرُ
وبآلِ بيتِ الوحيِ خيرُ سفينةٍ=تجري بنا نحوَ الرَّشادِ وتعبرُ
فولاؤهُم فرضٌ وحبَّهُم نجًى=للخائفين ونحنُ فيهم نفخرُ
يا سيِّدي والشعرُ وهو عواطفٌ=تذكو فتسبكُ في الفؤادِ وتصهرُ
وذبالةٌ من نورِ قلبٍ ذائبٍ=فيكم ينوَّرُ بالولا ويطهَّرُ
لأقلّ من أنْ يرتقي لفضيلةٍ=فيجيدُ في تصويرِها أو ينشرُ
فلقد سما معناك عنه لأنه=عرضٌ ينزَّه عنه هذا الجوهرُ
لكنما الأشعارُ قربانٌ به=نحظى بلطفِكَ عندَهُ أو(..)
فاقبلْ به لحنَ الوفاء فإنه=ذوبُ القلوبِ ودمعُها المتفجِّرُ