ناولوني القرآن قال حسين : = لذويه » وجدَّ في الركعات ِ
فرأى في الكتاب سِفرَ عزاء = ومشى قلبه على الصفحاتِ
ليس في القارئين مثلُ حسين = عالماً بالجواهر الغاليات ِ
فهو يدري خلف السطورا سطوراً = اًليس كلُ الاعجاز في الكلمات ِ
للبيان العُلوي ، في اُنفس الاطهار ، = مسرى يفوقُ مسرى اللغات ِ
وهو وقفٌ على البصيرة ، فالابصار = ُتعشو ، في الانجم الباهرات ِ
يقذف البحرُ للشواطىء رملا = ًواللالي تغوص في اللُّجاتِ
والمصلُّون في التلاوة أشباه = وإنَّ الفروق بالنيّاتِ
فالمناجاة شعلةٌ من فؤاد = صادق الحس مُرهف الخلجات ِ
فإذا لم تكن سوى رجع قول = فهي لهوُ الشفاه بالتمتمات ِ
إنما الساجد المُصلي حسين = طاهرُ الذيل ، طيّب النفحات ِ
فتقبّلْ جبريلُ أثمارَ وحي = أنت حُمّلتهُ إلى الكائناتِ
إذ تلقَّاه جدُّه وتلاه = مُعجزات ترنُّ في السجعاتِ
وأبوه مُدوّن الذكر ، اجراه = ضياءً على سوادِ الدواةِ
فالحسين الفقيهُ نجلُ فقيه = أرشد المؤمنين للصلواتِ
أطلق السبط قلبه في صلاة = فالاريج الزكي في النسماتِ
المناجاة ألسُنٌ من ضياء = ِنحو عرش العليِّ مرتفعاتِ
الامام الحسين عليه السلام يرى جده رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في المنام:
وهمت نعمةُ القدير سلاما = ًوسكوناً للاجفن القلقاتِ
ودعاهُ إلى الرقاد هدوء = ٌكهُدوءِ الاسحار في الربواتِ
وصحا غبَّ ساعة هاتفاً = «اختاهُ بنت العواتك الفاطماتِ
إنني قد رأيت جدي واُمي = وأبي والشقيقُ في الجناتِ
بَشّروني أني إليهم سأغدو = مُشرقَ الوجه طائرَ الخطواتِ»
فبكت والدموع في عين اُخت = نفثات البُركان في عبراتِ
صرختْ :ويلتاه ، قال : خلاك الشرُّ = فالويل من نصيب العتاةِ
الامام الحسين عليه السلام ياذن لاصحابه بالتفرق:
ودعا صحبَه فخفُّوا إليه = فغدا النسر في إطار البُزاةِ
قال إني لقيت منكم وفاءً = وثباتاً في الهول والنائباتِ
حسبكم ما لقيتم من عناء = فدعوني فالقوم يبغون ذاتي
وخذوا عترتي ،وهيموا بجُنح الليل ، = فالليل درعُكم للنجاةِ
إن تظلوا معي فإن أديم = الارض هذا يغصُ بالامواتِ
جواب الانصار للحسين عليه السلام
هتفوا يا حسين لسنا لئاماً = فَنخلّيك مُفرداً في الفلاةِ
فتقول الاجيال ُ ويلٌ لصحب = خلَّفوا شيخهم أسير الطغاةِ
فَنكونُ الاقذارَ في صفحةِ التأ = ريخ والعارَ في حديثِ الرُواةِ
أو سُباباً على لسان عجوز = أو لسان القصّاص في السهراتِ
يتوارى أبناؤنا في الزوايا = من أليم الهجاء واللعناتِ
سترانا غداً نشرّفُ حَدَّ = السيفِ حتى يَذوبَ في الهبواتِ
يشتكي من سواعد صاعقات = وزنود سخيّةِ الضرباتِ
إن عطشنا فليس تَعطشُ أسياف = ٌتعبُّ السخين في المهجاتِ
لا ترانا نرمي البواتر حتى = لا نُبقّي منها سوى القبضاتِ
ليتنا يا حسين نسقط صرعى = ثم تحيا الجسوم في حيواتِ
وسنُفديك مرةً بعد اُخرى = ونُضحّي دماءنا مرّاتِ
أصبحوا هانئين كالقوم في عرس = سكوت مُعطّل الزغرداتِ
إن درع الايمان بالحق درعٌ = نسجته أصابعُ المُعجزات
يُرجع السيف خائباً ، ويردُ = الرمح ، فالنصلُ هازىء بالقناةِ
مثلما يطعن الهواء غبي = ٌّفيجيب الاثيرُ بالبسماتِ
يغلب الموتَ هازئاً بحياة = لا يراها إلاّ عميق سُباتِ
فاللبيبُ اللبيبُ فيها يجوبُ العمر = في زحمة من الترّهاتِ
ويعيش الفتى غريقاً بجهل = فإذا شاخ عاش بالذكرياتِ
ألمٌ في شبابه ، فمتى ولّى = فدمعُ الحرمان في اللفتاتِ
إن ما يكسب الشهيدُ مضاءً = أمل كالجنائن الضاحكاتِ
فهو يطوي تحت الاخامص دُنيا = لينال العُلى بدهر آتِ
Testing
بسلاسة الألفاظ وعذوبتها ورقتها الوجدانية وجمال التراكيب والعبارات والجمل وبهاء صياغاتها ، وبكفاءة التخيّل وقدرة التأمّل والتصوّر تم لبولس سلامة كشاعر متميز أن يدور حول الحوادث والشخصيات والأمكنة في ليلة العاشر من المحرم ليقتنص ظلالها الشفّافّة فيوثّق التاريخ بريشة ساحرة ويرسم معادِلاً شعرياً للأفكار يحاذي ثباتها بمتغيراته ، ويوازي قطعيّتها باحتمالاته ، ويساوق أبديتها بلحظاته فيصطاد الرؤى الشعرية ويضع لها أجنحة تحلّق في آفاق الإبداع ويحيط الانفعال ليحرقه وقوداً للفكرة المقدسة الأبدية ، سنبدأ مع بولس سلامة من بيت جميل يقول فيه :
فرأى في الكتاب سفر عزاء * ومشى قلبه على الصفحات
كيف يستطيع قلب أن يمشي على صفحات كتاب ؟ هذا ما سَنُسميه خرق المألوف وتجاوز السائد في اللغة والكلام اليوميين ، وهذا يتم للشاعر بعد إختياره الواعي بين أنساق الكلام وألفاظ اللغة ثمّ التأليف المتبصّر للكل من الأجزاء فيجد الشاعر مبرراته المقنعة للخروج على الاُلفة والعادات اللغوية كونه يتعامل مع البيان الإلهي ومع الإنسان الكامل الإمام الحسين عليه السلام فيقول مفسراً :
للبيان العلوي في ، أنفس الأط * هار مسرى يفوق مسرى اللغات
ومن هنا نرى أن القلب الذي يمشي على صفحات القرآن متابعاً للمسرى والطريق الإلهي الذي يجعل القلوب تتمشي على مفرداته والفاظه ونرى أيضاً أن
--------------------------------------------------------------------------------
( 225 )
الشاعر يولي لفظة (القلب) إهتماماً خاصاً بقصد أو بدون قصد فنرى :
1 (ومشى قلبه.....)
2 (فالمناجاة شعلة من فؤاد صادق الحس.....)
3 (أطلق السبط قلبه في صلاة فالاريج الزكي في النسمات )
ويكون التجاوز متمثلاً في تحول القلب الى طائر مرتهن في قفص يطلقه الإمام الحسين عليه السلام في صلاته فيضوع من أثر التحوّل أريج يغمر النسمات.
هذا الإجتهاد المتميز في تركيب صور متجددة ومثيرة لهو نتاج الكفاءة في التخيّل المبدع والشاعرية المتحسّسة الدفّاقة التي تجتلي حالة الإتصال بالله تعالى عبر نورية المناجاة فتصوّرها هكذا :
فالمناجاة شعلة من فؤاد أو المناجاة ألسن من ضياء.
فالمناجاة عندما تكون قلبية فهي شعلة من فؤاد.. وعندما تكون لسانية فهي ألسن من ضياء.. ومن إشتعال الفؤاد وإنطاق الضياء يتحدد الإتصال من الإمامل عليه السلام بالله الخالق الحق الذي أفاض من نوريته على الإمام وعلى أبيه عليهما السلام أيضاً.
فأبوه مدوّن الذكر ، أجراه * ضياء على سواد الدواة
فتتجمع الأجزاء النورية في وحدة عضوية تلفّ بناء القصيدة وتمنحه تماسكاً خفياً وقوة باطنية واُ سّاً شاخصاً في مركز ثقل هيكل البناء ، ونقطة من نقاط الإرتكاز والثبات في عالم المعنى.
وهناك آلية اُخرى يستخدمها الشاعر ليؤكّد شاعرية نصه واختلافه ومغايرته لما هو سائد من آليات اللغة ، هذه الآلية الظاهرة في معالجته للمحسوسات والمجردات في تفاعل شعري يجمعهن ليعطي صفة إحداهن للاُخرى وبالعكس ،
في تآلف عجيب يؤكد غرائبية التصوّر والرؤيا التي تتفتّح على آفاق متعددة قابلة للقراءات المختلفة والتأويل المشروع ، فهو يهيّيء لحالة الحلم التي يتم خلالها التواصل بين الإمام عليه السلام وجده الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله [ بعد أن تم التواصل بينه وبين الخالق الحق عزوجل ] عبر هذه الآلية فنرى :
( وهمت نعمة القدير...
إن نعمة القدير كمفهوم مجرّد إتخذت صفة حسية عندما (همت) أي سالت أو جرت ، لكن هذه السيولة أو الجريان الحسيّين توافقا مع مفهومين آخرين : الاوّل مجرد هو السلام ، والثاني حسّيّ هو السكون ، في تآلف يجمعهما الإشتراك اللفظي في صوت حرف السين الذي تبدأ به اللفظتان (سلام سكون) نقول مثلما قال الشاعر : إن نعمة القدير قد جرت سلاماً وسكوناً وهذا الجريان أو السيولة جريان بلين ورقّة ، فالفعل (همى) يعني السيولة أو الجريان برقة مثل تساقط الدموع السائلة على الخدود أو تساقط قطرات الندى من الأغصان فجراً ، فما أبرعه من تصوير للحلم لأن هذه النعمة الإلهية قد تساقطت على (الأجفن القلقات) لتمنحها (السلام والسكون) برؤيتها لسيد المخلوقات (الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله)
وهمت نعمة القدير سلاماً * وسكوناً للأجفن القلقات
ودعاه إلى الرقاد هدوء * كهدوء الأسحار فى الربوات
وهناك امثلة اُخرى على هذه الآلية في تبديل موقع الحسّي بالمجرد أو بالعكس كما في (معجزات ترن) أو في (المناجاة شعلة..) (المناجاة ألسن..).
وهذه الآلية تصب أيضاً في مركز ثقل هيكل القصيدة كما قدمنا
هناك أيضاً تأثير الآداب المجاورة التي لابدّ أن تلقي ظلالها بوعي من
الشاعر أو من غير وعي فتظهر في نتاجه بشكل يدّل على التداخل أو إذا شئنا أن نستعير من أبي حيّان التوحيدي مايدعوه ب(المقابسة) والذي يسمى حديثاً ب(التناصّ) والذي كان الجهد النقدي القديم يعدّه من السرقات عندما لا يتعاطف مع النصوص المتداخلة فيؤلف كتاب حول (الابانة عن سرقات المتنبي) ويكون الرّد المتعاطف مع آليات التداخل بعبارة (وقع الحافر على الحافر).
ويُعلن النقد الأكثر حداثة عن عدم براءة أي نص من التداخل ونرى مثلاً في أحد أبيات القصيدة
مثلما يطعن الهواء غبيّ * فيجيب الأثير بالبسمات
اقتباساً واضح المعالم من الكاتب الأسباني سرفانتيس في روايته (دون كيشوت) الفارس الذي يقاتل طواحين الهواء برمحه في عبثية وغباء.
ثم نرى مسألة اُخرى تزيد النص وحدة وتماسكاً وهي النظرة الى علاقات الإمام عليه السلام فهو يبدأ في الاتصال بالله عزوجل عبر قنوات ثلاث هي :
1 القرآن..
ناولوني القرآن قال حسين * لذويه وجدّ في الركعات
2 الصلاة..
إنما الساجد المصلي حسين * طاهر الذيل ، طيب النفحاة
ليحدث بعد ذلك تصعيد جديد في علاقات الامام عليه السلام في اتصاله بجده رسول الله صلى الله عليه وآله عبر قناة الحلم و يكون في معيّة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله ايضاً اُمه الزهراء وأبوه أمير المؤمنين وأخوه الحسن عليهم السلام
إنني قد رأيت جدي وامي * وأبي والشقيق في الجنات
ليحدث تصعيد ثالث في علاقاته من خلال إتصاله بشقيقته زينب عليها السلام
وصحا غب ساعة هاتفاً * اُختاه بنت العواتك الفاطمات
ثم يحدث التصعيد الرابع في لقائه بأصحابه وأهل بيته :
ودعا صحبه فخفوا اليه * فغدا النسر في إطار البزاة
وتتم الدورة باللقاء بالله عزوجل شهيداً والانتقال الى العالم الآخر
إن ما يكسب الشهيد مضاء * أمل كالجنائن الضاحكات
فهو يطوى تحت الاخامص دنيا * لينال العلى بدهر آت
هذه الحركات الخمس أعطت للقصيدة إيقاعاً داخليا وهّاجاً ليضيف لهيكل القصيده دعائم بنائية متواشجة مع نقاط الارتكاز الاُخرى أو لِنَقُل : الخيوط التعبيرية والتوصيلية التي تنسج شبكة النص.
هناك ايضاً إستخدام الحوارات المختصرة المعبرة بشكل فني ينمّ عن وعي مسرحي عال يترجم الحوارات الاصلية التي قيلت ليلة العاشر من المحرم
حسبكم ما لقيتم من عناء * فدعوني فالقوم يبغون ذاتي
مقابل ( إنّ القوم إنما يطلبونني ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري )
وخذوا عترتي وهيموا بجنح الليل * فالليل درعكم للنجاة
مقابل : ( وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا )
أو :
ليتنا يا حسين نسقط صرعى * ثم تحيا الجسوم فى حيوات
وسنفديك مرة بعد اُخرى * ونضحي دماءنا مرات
مقابل قال زهير بن القين : والله وددت إني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أُقتل كذا ألف مرة )
وربما تكون بعض المقتضيات الفنية قد جعلته يبتكر في الحوارات مالم يُقل نصّاً بل مايُستشعر بأنه سيقال حتى أنه جاء بلغة معاصرة لا يمكن لأنصار الحسين أن يقولوا مثلها في زمنهم بل يقولونها بلغة عصرهم الذي عاشوا فيه :
فنكون الأقذار في صفحة التاريخ * والعار في حديث الروات
أو سباباً على لسان عجوز * أو لسان القصّاص في السهرات
يتوارى أبنائنا في الزوايا * من اليم الهجاء واللعنات
و هذا التمكن في إستخدام أدوات الفنون الاُخرى كالمسرح أضفى على القصيدة درامية في التعبير تضاف الى الحصيلة العامة مما أسميناه بالخيوط التعبيرية والتوصيلية الناسجة لشبكات الإتصال بين النص والمتلقي حين تنكشف معطيات القصيدة كإنجاز نوعي على مستوى المبنى الحامل للمعنى بموقف جمالي متقدم.