ويل بن معقل

قصة قصيرة – السيد جعفر الفرزدق الديري:

إستقبلتني نسمات شديدة الحرارّة، وأنا في طريقي إلى داري. كانت الكوفة أشبه بتنّور يصهر العظم قبل الجلد. وكان عقلي هو الآخر يغلي، بفعل أفكار شتّى تكاد تكسر قشرة الرأس، وأشدّها كان حديثي مع بن معقل!.
لم أشأ إخباره بكل ما أعرف، فإنّ في ذلك من الأثر السيّء ما يهدّ كيانه ويحوّله إلى وحش كما كان أبوه!. يقف أمامك شابّ، متفجّر الرغبات والأحاسيس، معتز بأبيه، ليسألك: أيّ رجلا كان أبي؟. فأيّ إجابة ستخرج من فيك؟! وأنت تعلم حقيقة الأب الفاجر، المعين على قتل الأبرياء بيده ولسانه وقلبه؟!
أشفقت على الشاب من حقيقة مرّة، تتابعت فصولها أمام عيني، منذ اللحظة التي رفع فيها الستار عن معقل وهو يهزّ رأسه طاعة لابن زياد، وحتى الساعة التي هرب فيها بعد مقتل سيده ووليّ نعمته. عمر من الرذيلة، شاء أن يلجه بقلب اعتاد المعصية ولسان مرد على النفاق، حتى سقط في الدرك الأسفل من النار!.
إنتبهت على صوت جاري أبو عبيد. كان يطلّ برأسه من النافذة. إبتسمت له محييا، فدعاني إلى داره...
ما بك مشغول البال؟
ألا ترى ما نحن فيه من فقر وخوف؟
هذه الحال ليست بالغريبة علينا؛ فمنذ أن استشهد الإمام الحسين عليه السلام ونحن من سيء إلى أسوأ.
لزمت الصمت، فبادرني:
هناك ما يشغلك؟
كان أبو عبيد زميلي وجاري وصديقي، ولم نكن نخف شيئا عن بعضنا...
كان بن معقل معي هذا الصباح؟
بدت الدهشة عليه...
وما كان يريد؟
يريد معرفة معدن أبيه.
مضغ أبو عبيد بقية الرطب في فمه، وعينيه مصوبتين علي...
لا أخالك أخبرته بما جرى؟
لم أفعل.
كان عليك إخباره؟
أشفقت عليه.
ممّه؟
لو رأيته لما صدقت أنه ابنه؟
لا أظنه يختلف عن أبيه في شيء؟
بل كان مختلفا تماما.
...
لم يبرح يصلي على محمد وآله، وكلما ذكر الإمام الحسين عليه السلام أجهش بالبكاء؟
أتصدق هذه الألاعيب؟
لا تنسى أن أمّه سيّدة صالحة؟
وأبوه شرّ الناس؟!
أنت تعرف فراستي في الرجال؟.

***

لم تمض سوى ساعات معدودة، حين أيقظتني زوجتي من نومي. فتحت الباب فوجدت بن معقل ينتظر. كان على هيئته التي رأيته فيها صباحا. جبين طويل يشي بالذكاء، وعينين كبيرتين قلقتين. وجسم طويل عريض، يرتدي ثيابا تدلّ على اليسر والغنى.
إعتذر لي، ولم أكن بحاجة لذلك. كنت أشعر بما ينوء بحمله شاب لم يكن ينقصه شيء من أسباب الحياة المرفهة، يواجه أمرا مهولا لم يعتد على مواجهة مثله من قبل.
دخل الدار وعينيه لا تكادان تتبيان شيئا. ولم يمهلني حتى قال:
لم أستطع الانتظار أكثر؟
ولكنني...
أرجوك لا تخفي عني شيئا.
لقد أخبرتك بما أعلم.
لم تخبرني بكل شيء.
لماذا أنت مصرّ على معرفة ماضي أبيك؟
تطلّع فيّ لبرهة، ثم قام متثاقلا، وأخذ بالتمشي في المكان...
لقد أخفيت عنك أمرا مهمّا.
تطلعت إليه باهتمام، فأضاف:
كانت أمي على فراش الموت. وقبل أن تفيض روحها إلى بارئها أخبرتني أمرا قلب كياني.
تطلعت إليه منتظرا المزيد...
أخبرتني أنها اجتهدت في تربيتي على ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام، لكنها تخشى علي من نار أبي!. وعندما سألتها أن توضح لي أكثر، أجهشت بالبكاء حتى فارقت روحها بدنها.
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قلتها وقد تخايات أمام عيني مساويء معقل وهي تحيط بابنه المسكين.
وها أنت تراني لا يقرّ لي قرار. لقد اعتدت العيش مع أمي، حتى أنني لا أذكر أني رأيت أبي إلا مرّات معدودة. حتى عندما علمت بموته لم أتأثر كثيرا. لكنني كنت أحسبه رجلا صالحا، وليس كما ذكرت أمّي.
حتى لو كان أبوك ليس بالرجل الصالح، فأنت رجل صالح مستقيم، ويمكنك أن تعيش كما ربّتك أمك؟
هناك أمر آخر..
وما هو؟
لقد عزمت على الزواج، ويهمّني أن أنشأ ذريّة طيبة، والعرق دسّاس كما تعلم.
وضعت يدي على جبيني، مفكرا في حلّ لهذه الورطة. هل أخبره الحقيقة؟! من الواضح أن الأمّ الصالحة أنشأت ولدها نشأة سليمة، والشاب ذكي وقوي العزيمة، ولن يستسلم حتى يعرف كلّ شيء عن أبيه.
لازلت لا أجد مبررا لرغبتك بمعرفة ماضي أبيك؟
حتى بعد أن أخبرتك برغبتي في الزواج؟
هناك فتيات كثيرات يتمنّين شابا مثلك؟
لكنّ من أطلبها زوجة لي تختلف عن بقية الفتيات، ان أبيها رجل معروف بولائه الشديد للإمام علي عليه السلام، ولن تقبل بي أبدا إن كان أبي كما وصفت أمي.
ومن هو؟
سائب بن جندب.
أمّا أنّ سائب رجل شديد الولاء للإمام علي عليه السلام، فأمر لا ريب فيه. وأمّا أنّه سيرفض بن رجل شارك في دم سيد الشهداء عليه السلام، فأمر لا ريب فيه أيضا. لكنني لم أقو على الافصاح بالحقيقة، وأنا أنظر إلى الشاب، وأتملى في عينيه أملا عظيما ورغبة صادقة في الحياة الشريفة. لذلك اعتصمت بالصمت متحيرا في أمري، حين سمعت طرقا خفيفا على باب الدار. كان القادم أبو عبيد.
دخل الدار مسلما، وحالما رآى الشاب طالعني بنظرة هززت على إثرها رأسي. كنت أعلم أن أبو عبيد يختلف عني كثيرا. فهو رجل غليظ القلب، لا يتردّد في أي أمر يؤمن بأنه الصواب، حتى لو تسبب للناس بألم شديد. وقبل ساعات من الآن كان رأيه أن المصارحة أفضل، وأن التريّث لا ينتج سوى مزيد من التعاسة للشاب. لذلك لم أستغرب أنّ أوّل كلمة نطق بها للشاب، بعد أن تعرّف عليه هي:
لقد عرفت أباك.
تنبهت حواس الشاب، وكانت عيناه تنطقان عن ما يختلج به قلبه وإن لم تنطق شفتاه...
بلى.. لقد عرفت أباك.. لقد خدمت معه في قصر بن زياد.
بدا وكأن الشاب بوغت بالأمر...
هل خدم أبي في قصر بن زياد؟
بل كان نديم بن زياد نفسه.
أبي كان نديم بن زياد؟!
بلى.. كان نديمه وصفيه ومعتمده في كل شيء.
تحرّكت أصابع الشاب بحركة وشت باضطرابه الكبير؛ إن نديم بن زياد وصفيه ومعتمده مشارك له لا شك في جرائمه. تطلع إلي، فلم أملك سوى أن هززت رأسي وأنا أتألّم لحاله. لكن أبو عبيد لم يترك للشاب فرصة لكي يستجمع نفسه، بل قال وعينيه لا تفارقان الثياب الفاخرة التي يرتديها:
أنا مستعد لمرافقتك إلى رجل كان أقرب الناس الى أبيك، فماذا سينالني بالمقابل؟!
أدخل الشاب يده بسرعة في جيبه، وأخرج منها صرّة مملوءة بالنقود، وضعها في يد أبو عبيد وهو يقول:
ستنال أضعافها إن أوصلتني إلى داره.
إضطرب أبو عبيد، وأمسك بالصرّة وراح يهزّها وعينيه تكاد تقفزان من محجريهما جشعا...
مومومؤكد.. مؤكد. هيا بنا.
***
رغم علمي أن أبو عبيد لم يكن بالرجل القوي الإيمان المتحلّي بالورع والتقوى، إلا أنّ تصرفه مع الشاب أدهشني. لعنت الفاقة التي تدفع بالإنسان للوقوع في مزالق الطمع حتى ولو على حساب شاب مثل بن معقل.
آثرت الذهاب معهما، لكي أمنع أبو عبيد من أيّ تصرف أخرق آخر. أرغمت أبو عبيد على القسم بأن لا يذكر للشاب أيّ أمر آخر، طالما أنه سيقابل صديق معقل المقرب قيس بن مرة. الشيطان الذي كان يزيّن لمعقل كل جرائمه.
طرقنا على الباب ففتحته جارية شابة متهتكة، لم ترفع عينيها عن بن معقل. غابت قليلا ثم رجعت تقول إن سيدها بانتظارنا. إستقبلنا قيس بترحاب كبير، ورائحة الخمرة تنتشر في كل المكان. كان خليعا ماجنا، كما عرفناه دائما. أما أنا فسكتّ. وأما أبو عبيد فأسرّ له بضع كلمات انصبت بعدها نظرات قيس على الشاب. ولم يمهل الشاب حتى أخذه في أحضانه وهو يصيح:
أهلا بك من حبيب.. أهلا بك من حبيب.
لم أشهد الحديث الذي جرى بين بن معقل وقيس. فضّلت الخروج من الدار، والوقوف في الطقس الحار على الجلوس بمحضر شاب تكاد روحه تفارق بدنه. ولم يمض وقت طويل حتّى فتح الباب، وخرج بن معقل مترنحا ليس من أثر الخمرة، بل من أثر ما سمع!.
حاولت وأبو عبيد أن نأخذ بيده، لكنه رفض بإصرار، ومضى إلى حال سبيله، وعينيّ تشيعانه يهتز، تكاد قدماه لا تقويان على حمله.
إلتفتّ إلى أبو عبيد ونحن في طريق العودة...
هل أخبره بالحقيقة؟
بكل تفاصيلها.. لم يترك شيئا.. أجهز على الشاب المسكين.
لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم. ما ذنبه لكي يحمل ذنوب أبيه؟
هو من أراد ذلك، وعليه تحمل نتيجة ما أراد.
ليتنا نمتلك شجاعته فنواجه ماضينا نحن أيضا؟

تمت

الأحد 5/2/2012