شعراء أهل البيت عليهم السلام - تجعفرت باسم الله... قصة قصيرة

عــــدد الأبـيـات
0
عدد المشاهدات
5904
نــوع القصيدة
فصحى
مــشــــاركـــة مـــن
تاريخ الإضافة
21/12/2011
وقـــت الإضــافــة
3:30 مساءً

تجعفرت باسم الله...

مرفوعة إلى صاحب العصر والزمان (عج)

ما الحياة؟ إنها فيما يبدو حالات متسلسلة من الحزن والفرح. طريق طويل به منازل شتّى، محتّم على الانسان المرور بها. أمّا هو فيذكر جيدا أنه مرّ بهذه البيوت واحدا تلو الآخر، وأنه تعرّض لسهام البلايا حتى لم يتبق لأخرى مكان. وتناول من السعادة ما أشعره بأن الأيام والليال قد صفت له أخيرا. غير أنه اليوم يبكي بحرقة الشحيح، الذي ظل يكدّس المال حارما نفسه متع الحياة، معرضها لسخط الناس، فاذا بكل ما جمعه معرض للنار لتأكله؛ هذه النكتة السوداء كانت كالنقطة من المداد، لكنها كبرت حتى طبقت وجهه اسودادا، فأي عذاب أكبر من شماتة الأعداء؟! أعينهم تسخر منه وألسنتهم تسلقه بسياطها، وهو عاجز لا قوة لديه لدفع كلماتهم النابية ونظراتهم المتشفية. لماذا اذن تحمل ما تحمل من أذى؟! لماذا احتقر المتع التي يجرون وراءها؟ لماذا فارق الأقرباء وأدنى الأبعدين؟! لماذا رفض الشهرة والمال والجاه واكتفى بحياة بسيطة زادها التقوى؟! أليس من أجل يوم مثل هذا، يكون إيذانا بالمغفرة والرحمة وبحياة أخرى لا همّ فيها ولا نصب؟!.

************

لو عادت به الذكريات إلى الوراء لشاهد صبيا مختلفا عن بقية أقرانه؛ عنيد قوي الشكيمة، لا يقبل بفكر معلّب ولا تستهويه الطقوس التي يجد أبويه عاكفين عليها.
كان رأسه مجهدا بفعل تفكير لا ينقطع في معتقدات الناس، غير عابيء بأي لون من ألوان الملامة والتعنيف، حياته أشبه بحياة الرّحالة، كلّما قرروا البقاء، أخذت بهم رغبتهم في اكتشاف المجهول الى عوالم أخرى وأناس جدد، فمنذ أن شاهد تلك النخيل يحملها من أرض سبخة إلى طيبة، تكاد تثمر اللؤلؤ والمرجان، وهذه الرؤية تملأ فكره ووجدانه، بعد أن أحيت في قلبه نورا لزمه فلم يفارقه، انبثق من المجهول ليقوم مقام البشارة. كانت عيني أبيه تنظرانه باهتمام؛ تتسائلان: أيكون هذا الولد فاتحة دنيا عريضة؟! ذهب به إلى المفسر الشهير، إستمع اليه باهتمام ثم قال:" أما ابنك هذا فسيقول الشعر في مدح طهرةٍ أبرار!" أما هو فلم يعد بعدها يذوق طعم الهدوء. كان كلّما جلس لوحده انتابه شعور غامض رائع وهتف به هاتف أنه جاء الى الدنيا من أجل غاية عظيمة. شعور لم يفارقه حتى بلغ مبلغ الرجال، شابا وسيما أسود البشرة، عاطش إلى نبع صاف لا تشوب مياهه شائبة، مقرور يبحث عن مكان دافيء يشعل قلبه رغبة في الحياة، ويفجر منابع الشعر فيه.

كان يدرك جيدا أنه خلق ليكون شاعرا عظيما، وإلا فما شأن القصائد التي تخرج من فيه مطبوعة لا تكلف فيها؟!. تلهب مشاعرهم وتطربهم حين تتفتق عن بساتين من الأفكار والصور لم يشاهد الراؤون أجمل منها. قصائد تدفع بأغنيائهم ووجهائهم إلى التقرب منه رغبة في بيت أو بيتين يطلقهما عفو الخاطر، لاهين عن نفس أكبر من أن تحصر الشعر في طلب المال والتزلف من الولاة والحكام.

في موسم الحج كان الألم قد بلغ به مبلغا متقدما، كان ينظر الى الكعبة المشرّفة فيشعر بسرّ خفي يكتنف الحياة، يمكنه اكتشافه لو وقع على ذلك الخيط الواصل بين السماء والأرض. آه لو تسنّى له أن يجد السماء التي ترسل الغيث مدرارا على أرضه، لأمكنه عندها أن يخرج منها نباتا مختلف ألوانه لذة للآكلين...
استوقفه أحدهم، رجل مؤمن يلقي السلام ببشاشة ويتحدث بهدوء:
ان الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) يود لقائك؟
أهذب إليه بنفسي إن شاء الله تعالى.
ترى ماذا يريد الامام منه؟! أيكون الحسّاد والمغرضين أوصلوا له ما أساءه منه؟! لكن الإمام ليس ككل الناس، إنه قبلة الأنظار تتجه إليه في شؤونها الصغيرة والكبيرة، وحاشاه أن يحكم عليه دون أن يستمع له. كان قلبه قد وصل به إلى الإمام، فشاهده الآلاف حوله كل يلتمس من نبعه ما يروي ظمئه. العيون شاخصة اليه والأذهان متعلقة به. تأمّل في قلوب القوم، فوجد في بعضها ما في قلبه من حيرة وتمزق وتعاسة، وفي أخرى هدوء وثبات وسعادة. تأمل أكثر فاذا بتلك القلوب بوم مخيفة نفر منها، وهذه القلوب طيور طيّبة تحوم حول الامام أحبها!. شعر بطمأنينة عجيبة، لماذا لا يكون معها؟! غير أنّ الجدول بحاجة الى النهر!. واذا كان فقيرا محتاجا فان النهر كريم معطاء.

بعد لقائه الامام، لم يكن قد أفاق من نشوته بعد، حين تساقطت همومه كما تتساقط أوراق الشجر. أحسّ بشيء مختلف، ثمّة شعور مدهش بالحرية. هذا الفضاء الذي لا حدود له والسماء الزرقاء وأسراب الطيور التي تقطع المسافات تسبّح بحمد ربها، تؤذن بخير كثير. ملأ الامام الصادق (ع) فؤادة طمأنينة وثقة بالنفس لا حدّ لها، فاذا بالكلمات تخرج من نياط القلب دون أن تمر على اللسان:
"تجعفرت باسم الله والله أكبر * وأيقنت أن الله يعفو ويغفر
ويثبت مهما شاء ربي بأمره * ويمحو ويقضي في الأمور ويقدر"

آن لرئته أن تتنفس بردا وسلاما، ولروحه أن تقفز طربا. آن للشرنقة أن تتمزق وتخرج منها فراشة بديعة الألوان تدخل جميع البيوت دون استثناء، فتنثر فضائل آل بيت محمد (ص)، فمن أحبهم أطربتهم ومن أبغضهم ملأت أيامه كدرا.

تلك إذن حقيقة الرؤية، فان النخيل هي قصائده يحملها إلى أرض طيبة. إنه يلهج بذكرهم، فلا تلبث الكائنات جميعها أن تردد ما يقول، أيّان يقف لينشد يجد الأرض والسماء تستمعان. لم يسلى لحظة دون نظم الشعر فيهم، ولم يغفل فضيلة أو منقبة لم يوقعها في شعره. أصبح لسان صدق مخصوص بنور يمشي به في الأرض هو علي بن أبي طالب (ع)، كشأن عمار بن ياسر والصحابة المخلصين.
لله درّه.. لم يقبل بأقل من السماء ينالها، سماء علي وأبنائه البررة. لقد وجد أخيرا الواحة التي كان يرمقها بقلبه دون عينه، وآن له أن يشرب منها عذبا أجاجا وماء ثجّاجا. في محرم الحرام دخل على الإمام الصادق (ع) فضرب الإمام سترا لنسائه وأطفاله، وأجلسهم خلف الستر، وجلس حزينا باكيا على مصيبة جده الحسين (ع) ومن حوله أصحابه، فأنشده:
أمرر على جدث الحسين * فقل لأعظمه الزكيه
يا أعظما لا زلت من * وطفاء ساكبة رويه
فإذا مررت بقبره * فأطل به وقف المطيه
وابك المطهر للمطهر * والمطهرة النقية
كبكاء معولة أتت * يوما لواحدها المنيه
فرأى دموع الامام (ع) تتحادر على خديه، وارتفع الصراخ من داره حتى أمره بالإمساك.

***********

أكثر من ستين عاما وهو ينقل النخيل من الأرض السبخة الى الأرض الطيبة، على أمل الخلود في منزل صدق عند مليك مقتدر. لم يتوان لحظة عن دفع الثمن الباهظ مقابل مجاورة الصادقين محمد وآله الطيبين الطاهرين. كان قد أعدّ للفقر جلبابا وللأعداء درعا من الصبر. كان يدرك أن الغاية عظيمة، سلّمها شيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. دفع كل ذلك من أجل أيام هي أحلى الأيام وألطفها وأسعدها، أيام قبل الموت تترادف بها الملائكة إليه، مبشرة بالنعيم الدائم، فهل تكون العاقبة أشدّ من مرارات الحياة وتعاستها؟!.

لقد رعيته أي رب صغيرا وكبيرا، وهديته الى الحق المبين، ونشرت رحمتك عليك، فمتى ينجلي الهم؟ لقد طال العذاب وأوشكت ذبالة المصباح أن تنطفأ، فمتى تشوه هذه الوجوه وترغم هذه الأنوف؟! كان عقله يفكر بألم لو تحوّل الى زيت لأذاب صخرة عظيمة، حين دخل الشامتون، كانوا أكثر هذه المرّة، اجتمعوا ليشهدوا تكسّر جناحي نسر طالما أقلق راحتهم، وجعلهم يحتقرون أنفسهم وان تباهوا أمام الناس. السيد الحميري الشاعر الذي لم يتزلف ولم يهادن ولم يخشى السجن والتنكيل في سبيل معتقده، يتحوّل وجهه إلى سواد قاتم! يا لها من فرصة لا تعوض، ودليل أي دليل! على بطلان معتقده بعلي وأبنائه.

هكذا كانت وجوههم تنضح حقدا وشماتة ورغبة في الحياة والمال، لكن سرعان ما تبدّلت، فكستها دهشة امتزجت بالرعب، ثمة لمعة بيضاء وسط الوجه لم يشاهدوها من قبل، تشع فكأنها شمس تطل وراء الغمام. أيمكن أن تزيد وتنمو؟ بلى.. ها هم يفدون في اليوم التالي اليه آملين أن تزول، لكنهم يجدون وجهه وقد أسفر وأشرق، ليفروا خاسئين، يلاحقهم العار أبد الدهر.
لقد غشي النور وجه السيد بأكمله، فتحوّل وجهه الى صفيحة فضة بعد أن كان في سواد الليل. فقال: أشهد أن لا إله الا الله حقا، وأشهد أن محمدا رسول الله صدقاً صدقاً، وأشهد أن عليا ولي الله رفقا رفقا. "ثم أغمض عينيه بنفسه، فكأنما كانت روحه ذبالة طفئت، أو حصاة سقطت".

لقد غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه، وهيأ له مقعد صدق، ليكون آية على كل جاحد فضل علي وأبنائه، شيعته الملآئكة إلى مثواه وأبياته الأخيرة تنزل بلسما على قلوب المحبين:
"كذب الزاعمون أن عليا * لن ينجي محبه من هنات
قد وربي دخلت جنة عدن * وعفا لي الإله عن سيئاتي
فابشروا اليوم أولياء علي * وتولوا علي حتى الممات
ثم من بعده تولوا بنيه * واحدا بعد واحد بالصفات".

تمت
الثلاثاء 6/11/2011
Testing