شعراء أهل البيت عليهم السلام - شاه جراغ

عــــدد الأبـيـات
0
عدد المشاهدات
2602
نــوع القصيدة
فصحى
مــشــــاركـــة مـــن
تاريخ الإضافة
08/12/2011
وقـــت الإضــافــة
3:48 مساءً

شاه جراغ

قصة قصيرة السيد جعفر الفرزدق الديري

مرفوعة الى سيدة نساء العالمين (ع)


(1)

نور ضئيل ينصبّ على الوجه المهيب، ينفذ من فجوة في الجدار. عدا ذلك ظلام يخيّم على المكان وتراب يملأ كلّ شبر فيه.

البيت قديم لم تطأه قدم إنسان منذ زمن بعيد، لكن رائحة زكية داعبت آناف القوم ما إن فتحوا الباب...
"من هنا مولاي". قال قائد الحرس، وأفسح المجال للأمير.

تقدّم الأمير مسعود بن بدر الدين إلى الداخل، في خطوات جهد أن تكون متّزنة، لكنه ما أن شاهد الشاب الصريع مخضّبا بدمه حتى شهق؛ شاب وسيم قسيم يغطّيه الدم من قرنه حتى قدميه، فمه مبتسم وعيناه هاديئتين كأنما شاهد حبيبا بعد فراق طويل!.

لم يستطع الأمير كبح دموعه، رؤية الشاب حرّكت في قلبه حبا كان ينتظر إثارة ما. لم يكن يعرفه غير أن هاتفا مسّ قلبه حوّل مجرى دمه إليه. أحسّ وكأن الشاب قريب منه تصله به رابطة قويّة.

إقترب منه ومسح الدّم وعيناه تفيضان دمعا...
"هل تعرفتم عليه"؟
رد رئيس الحرس:
"لا يا مولاي، لم يتعرف عليه أحد لا من الحرّاس ولا العاملين"!.
"إن صدق حدسي يا مولاي، فإن لهذا الشاب أمر عجيب". قال الوزير.

أشار الأمير الى الحرس لمساعدته على حمل الشاب، لكنهم ما إن بدئوا حتى لمع فصّ خاتم في يده...
"انتظروا". صاح الأمير. ثم مدّ يده إلى يد الشاب، وتطلّع في خاتمه...
(العزة لله أحمد بن موسى) قالها الأمير بانفعال، متطلّعا إلى وزيره...
"مولاي". ردّ الوزير ثم أجهش في البكاء "كان عندي شك يسير، أما الآن فأنا متأكد أن هذه جثة الأمير شاه جراغ أحمد بن الإمام موسى الكاظم (ع)"!.
"ولكن كيف"؟ تساءل الأمير ولا تزال كفّ الشاب في يده "ان جسده لا يزال طريا، حتى أن الدماء تتفجر منه".
"سبحانه يحيي العظام وهي رميم"!.

(2)

كان قد جلس مولّيا وجهه شطر الجامع، متطلعا عبر النافذة إلى المئذنة تكتنفها السماء في ليل ساحر يميز محلّة "سردزك"، فيما يداه تحركان حبات التربة الحسينية وفمه يلهج بالصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أدار برأسه متطلعا في جوانب المكان الواسع ذو الأثاث الفاخر، في كل زاوية منه آية من آيات الفن. لكن ابتسامة ساخرة ارتسمت على فمه، ران بعدها وجوم على وجهه.

لو عاد به الزمن لتخلّى عن الملك وانضمّ إلى حاشية السيد أحمد. كانت سيرته تتناقلها الأجيال وتلهج بها الألسن؛ السيد المؤمن المتفجر شجاعة يقابل الموت فلا يخشى أحدا، ينحدر كالسيل على الظالمين، حتى إذا أعيا القتلة أمره لجئوا الى الحيلة فأردوه قتيلا!.

أربعمائة عام مضت والجسد الطاهر لا يزال طريا كأنما سقط الساعة، أربعمائة عام كأنها في عرف الزمان لحظة انتقال من الظل إلى النور. كأن الحياة القصيرة التي عاشها غربت، لتبدأ قصة أخرى في قلوب الناس تضيء لياليهم. أما هو! فأي أثر سيترك؟ ودّ لو يقايض ما يملك بساعة يشعر فيها بما أحسّه السيد في أي موقف كان فيه، في صلاته وقيامه، في وعظه ودروسه، في حربه وطعانه، لكنها آمال عصية على التحقيق!.

لسوف يجهد في بناء عمارة عالية على القبر الشريف ذات رحبة واسعة لتكون مأوى للزائرين والوافدين، لسوف يوجه العلماء إلى البحث، لكن شتان بين احساس تولده التجربة وبين أثر تطمح أن يهبك احساس التجربة!.

أخذ بالتمشي شابكا يديه وراء ظهره، حين رأى حاجبه يقف في أدب منتظرا الأذن بالكلام...
"ما وراءك"؟
"إن بالباب شيخا كبيرا يطلب لقائك مولاي"؟
"أليس بامكانه الانتظار حتى الصباح"؟
"إنه صاحب حاجة ولولا أنك أمرتني بعدم رد أصحاب الحوائج لما أقلقت راحتكم".
"فاليدخل".

تطلع الأمير مسعود إلى الشيخ الطاعن في السن، المتوكأ على العصا، يتقدم في خطوات واهنة بادئا بالسلام. يمسك برقعة شأن من يخاف على شيء ثمين من الفقد، وراءه ابنه يلحظه بعينيه قلقتين.
أخذ الأمير بيده فأجلسه قربه...
"مولاي إن لي اليك حاجة"؟
"أو تحتاج مالا"؟
"ليست هذه حاجتي"؟
"فما هي"؟
"حاجتي أن تقرأ هذه الرقعة".
تناول الرقعة من يد الشيخ...
"تبدو قديمة جدا!"
"هذه الرقعة يا مولاي ورثتها عن أجدادي، لقد كتبت قبل أربعمائة عام"!.
تطلع الأمير الى الشيخ برهة، ثم أدار بطرفه ناحية وزيرة فوجده يمسك ذقنه بيده مفكرا...
"تقول أربعمائة عام؟!
بلى يا مولاي لقد كتبها جدي جابر بن محمد، واحتفظ بها أجدادي حتى وصلت إلي، وها أنا أسلمها إليك"!.
"ولماذا تخصني بها"؟!
"لأنك حقيق بها مولاي. لقد كتب جدي هذه الرقعة آملا أن يأتي يوم يجد فيه الناس قبر شاه جراغ السيد أحمد بن الامام موسى الكاظم (ع)".

تنبهت حواس الأمير مسعود وتطلع بانتباه إلى الشيخ، منتظرا منه ايضاحا!...
"كان جدي أحد المصطفين من قبل السيد أحمد، شهد معه صدرا من صباه وشبابه، وقد سجل في هذه الرقعة أمورا مهمة، إذ كان معه حين خرّ شهيدا. حتى اذا أتاه الأجل أوصى بأن لا يطّلع على هذه الرقعة أحد سوى أمير مؤمن لا تضيع عنده الأمانة، محب لآل البيت عليهم السلام. ولما علمت باكتشاف جثة السيد أحمد، وأمرك ببناء ضريح على قبره الشريف، وإيعازك للعلماء بالبحث عن أية معلومات تتعلق به، علمت أن ما تمناه جدي آن أوان تحققه".

إكتسى وجه الأمير مسعود بالبشر، وغمر قلبه فرح كبير. أمسك بيد الشيخ بمودة، وتطلع ناحية وزيره فوجده يبتسم بسعادة...
"إنها وثيقة ثمينة هذه التي أتيتنا بها يا شيخ"؟
"آمل أن تجد فيها ما يبلّ ظمأك".
"لن أنام حتى أقرأها إن شاء الله تعالى".

(3)

"في البدء كان العلم.. التقوى.. الكرم... الشجاعة وكل مخايل الإنسان المتحدر من أنبل فرع في أشرف بيت، وفي النهاية كانت الشهادة على موعد مع عريسها المتقدم إليها ومهره الدم.

في البدء كانت عيناه ياقوتتان تضيئان لكل عابر سبيل يطلب الزاد، وفي النهاية أضحتا سراجا يهتدي به الانسان في ظلمات الحياة.

في البدء استلهم من أبيه وأجداده البررة، ما جبلوا عليه من نفس مطمئنة وإرادة صلبة، وفي النهاية انضم إليهم وقد ارتدى أبرادهم.

كان من معشر لم يقبلوا بسوى البداية أو النهاية، إما الصدر أو القبر! أما الوسط فشأن غيرهم.. كلما ارتفعوا قليلا إنحدروا أكثر، والغاية التي يسمون اليها لا تجاوز المعاطف التي يرتدونها في ليل قارس، أو المهفّة التي يهفون بها على وجوههم حين اشتداد الحر!.

تسألني أي ولدي أما كان في فقدانك البصر دليلا دامغا على الحب؟ أجيبك انني لو ذهبت نفسي شعاعا فداء له لما وفيته حقه، ولولا أن الذكرى تنفع المؤمنين، لما تجلدت منتظرا لحظة اللقاء به في الدار الآخرة. انك لتراني دائم الوجوم أغيب عن الوجود، ثم تسألني: لماذا كل ذلك؟! لو عرفت السيد لما كان شأنك معه خلاف ما تراني عليه! كنا نلعب في الأزقة حين أقبل جند الوالي، خيولهم لا توفر صغيرا ولا كبيرا. كان الرجال يفرون من أمامهم والنساء يرمين ما بأيديهن، أما الأطفال فلا حول ولا قوة لهم، كنت واحدا منهم، أقبل جندي نحوي، أحسست بالموت يقترب مني، وقف شعر رأسي فزعا، وما وعيت الا وغلام يقف بيني وبين الحصان!. حرن الحصان وأسقط صاحبه. أخرج الجندي سيفه وأقبل وفي عينيه ما في عين الذئب من رغبة بالفتك، لكنه ما ان رأى السيد حتى تجمّد مكانه ولانت يده وفرّ هاربا وهو يصيح: أحمد بن موسى!.

كانت تلك أول مرة أرى فيها السيد، لم يكن يكبرني بسوى سنوات قليلة، لكنّ من يراه يحسبه شابا لبسطة جسمه وقوّة ساعده. كان ذو مهابة تسلب لب ناظرها.
لزمته لعشرين عاما فوجدته سبحان الخلاق! التربة الصالحة لكل خلق نبيل؟! كنت مأخوذا به... هل كان معصوما؟ أستغفر الله! لكنني لم ألحظ عليه فعلا واحدا أو كلمة ليست في مكانها. أما أكثر ما ملأ قلبي فهو عطفه على المساكين وولعه بعتق الرقاب؛ لقد أعتق ألف مملوك! وكان يأمل بالأكثر، كان يعمل فلا يبقي لنفسه سوى اليسير، ويصرف الباقي على المساكين. كنت كلّما ذكّرته بذلك تدمع عيناه ويقول: وأين أنا من جدي علي بن أبي طالب؟!.

بلى... كانت جميع الخيوط تصله بعلي بن أبي طالب (ع)، كما هو شأن أبيه الامام موسى الكاظم (ع)، فاذا أردت أن تعرف سر السيد فابحث عنه في سيرة جده أبا الحسنين (ع). كان يسعى لأن يكون نجما في سماء علي، يترسم دربه في كل قول وفعل، ولأن الطريق شاقة والمثال أبعد من الثريا، ظلت نفسه ترتفع الى أن بلغت درجة الشهادة!.

لن تتركني حتى تعرف ما جرى ذلك اليوم! ورغم أنك تدرك أثر ذلك على أبيك الا أنك تصرّ على طلبك! لن أخيب رجاءك هذه المرّة، فأنا أثق بك وأعلم أن معرفتك ذلك، من شأنه أن يولّد في قلبك وقلب أترابك من المشاعر والرؤى ما يدفع بهمتك إلى نيل السماء!..
في ذلك اليوم التفت الي السيد قائلا:
"عليك مغادرة المكان عندما أسقط".
دمعت عيناي دون إرادة مني، أحسست وكأن البحر اتسع أمامي، فلا طوق ينقذني ولا جسرا يصلني بالضفة. لكنه أردف وعينيه تنظراني بمودة:
"إرحل على الفور.. عليك إكمال ما بدأناه".

لم أميّز الحال التي كنت فيها، كنت بين حزن قاتل لفراق السيد وبين سعادة عظيمة! إختلط سروري ببكائي، بعد عشرين عاما آن لي أن أقطف زهرة من حلاوة النجوى، لقد اختارني السيد دونا عن بقية أصفيائه لاتمام ما بدأه. علمت ذلك اليوم أن حظي كان عظيما بالفعل، لكن أية سعادة تلك والسيد مقدر له أن يرحل الى آبائه اليوم، لأظل بعده منبتّا "لا أرض تقلني ولا سماء تجنني"؟!.
تقدمت منه، ضمني الى صدره، فكانت دموعي ترجمان تعبي.. انكساري.. شرودي.. قسوة الفراق حين تعبث بالحشا جبارة عاتية!.

سمعنا أصوات الخيل والجند، فابتسم السيد ابتسامة الرضا. أدار برأسه ناحية القبلة وصلى ركعتين. كان في أجلى صوره تؤكد خلق الانسان في أحسن تقويم. لو رأيته ولدي لحسبته لؤلؤا منثورا!.

أخرج عصابة شدّ بها جبهته شأن جده أمير المؤمنين (ع) كلما دخل الحرب، فامتلا الرأس دما. أقشعر جلدي ووقف شعر رأس! كادت روحي أن تبلغ التراقي، من أي عالم ترد هذه المهابة؟! أمسك بسيفه وصاح كما صاح جده الامام الحسين (ع) في بوغاء كربلاء:
فان نهزم فهزامون قدما * وإن نهزم فغير مهزمينا
وما إن طبنا جبن ولكن * منايانا ودولة آخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا * سيلقى الشامتون كما لقينا
إذا ما الموت رفع عن أناس * بكلكله أناخ بآخرينا
ثم التفت الي قائلا:
"افتح الباب جابر".
فتحت الباب فكأن بركانا ثائرا لا يبقي ولا يذر، أو إعصارا شمل الجند فتركهم أعجاز نخل خاوية. إنقض عليهم وأنا خلفه وهو يصيح (الله أكبر)، فتطايروا من أمامه زرافات، كلما تقدم تراجعوا، وكلّما أحجموا أقبل بضربات كأنما تستبق الزمان لتخلّد. كنت أقاتل إلى جانبه وأصيح (الله أكبر) لفرط النشوة التي خالطت قلبي. رجعت طفلا يتأثر بالأشياء على طبيعتها وأنا أشاهده وقد حوّل الجند الى رماد، فيما عيناه شاخصتان الى السماء وفمه لا يفتر عن ذكر الله تعالى. تساءلت: من تكون أبا الحسن؟! أي سرّ خصك الله به حتى جعل من نسلك قبلة الحياة إلى يوم الدين؟! أيصنع الايمان بك وبمعجزاتك كلّ هذا البهاء؟! هذا حفيدك الذي اقتفى أثرك اقتفاء الفصيل أثر أمه، يكتب ملاحم تعيد تاريخك وتاريخك أبنائك! يرتدي رداء الموت فلا تلبث الأرواح أن تفارق أجسادها!.

لو رأيت أي ولدي الهول والفزع الذي غشى أعين الجند لعذرتهم؛ لطالما شهدت حروبا وأبطالا، لكن هذا السيد كان شأنا آخر! كان في حالاته العادية مهيبا يشعر كل من يراه اما بالبرد والسلام لاحساسه بأنه يعتصم بنفس عظيمة، أو بالخوف يشمله وكأنه يطالع جبلا شاهقا، أما في ذلك اليوم وفي تلك الساعة فكان سيف النقمة الالهية تتخطف الظالمين واحدا اثر واحد.

لم يكن أحد ليتقدم إلى لقاء السيد، بلى كانوا يتقدمون الي، عندما أقف مدافعا، لكنه لم يغفل عني لحظة، كنت أراه أمامي وخلفي وعن جانبي يستقبل السيوف، أما الجند فكانوا محاصرين بين سيف السيد ولؤم رئيسهم قتلغ خان، اذ أوعز الى زبانيته بقتل كل من يتراجع.

كان يقف بعيدا منتفخ الأوداج حنقا، حين أقبل عليه جندي يطلب مددا. رفع سوطه وهوى به فوق وجهه صائحا:
"اللعنة عليكم... ما هو الا رجل واحد"!.
"لكنه ليس كبقية الرجال سيدي" رد الجندي "ان ضرباته نار الله الموقدة، عيناه تبثان الرعب في قلب كل يتقدم اليه. ما ان يصيح (الله أكبر) حتى يتحول الجنود الى هياكل لا يكسوها لحم ولا يتحرك فيها دم. ضرباته لا تخطأ، فاما هامة شقها السيف الى نصفين، أو رأس ملقى الى جانب صاحبه".

إندفع قتلغ خان لملاقاة السيد، لكنه سرعان ما تراجع عندما وجده يحرّك سيفه كما يحرك ضلعا من أضلاعه. وقف متحيرا يبحث عن مخرج، حين أسرّ في أذنه رجل قصير دميم تفوح منه رائحة كريهة كلمات قليلة، لاح على اثرها البشر على وجهه، فأوعز للجند أمرا.

لكل شيء نهاية أي ولدي، وهذه الجولة هي الأخيرة، لن يعود بعدها السيد، بل ستنتقل روحه إلى مقرها الأبدي. كان كلما دخل الدار استراح هنيهة وشرب الماء، لكنه هذه المرة لم يجده، ولم يكن يعلم بأمر الجماعة التي تسلقت الأسطح حتى وصلت اليه، كان عليه الآن مواجهة فرقتين واحدة أمامه وأخرى خلفه وهو عطشان، أيقن بالجنة فاندفع مقاتلا وهو يصيح (ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم). ظل يضرب فيهم بسيفه حتى انكسر، سيف ثان وثالث والقوم يتساقطون من حوله، يكرّ ويفرّ فيما أنفاسهم مبهورة وأعينهم زائغة، حتى تمكن لعين ويح قلبي من ضربه على هامته، فسقط وفمه يردد: (بسم الله وعلى ملّة رسول الله)، ابتسم ابتسامة نفس مطمئنة تعلم أن لها مقعد صدق عند مليك مقتدر، ورجع الى ربه راضيا مرضيا، ليدخل الجنة التي وعدها الله بها المتقين.

أحسست بالأرض ترتجّ من تحتي وبيد قوية تدفعني، لابد من العودة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله بالجوهرة التي تعتقت في قلبي. لابد أن أوصلها الى الناس، بعد أن وعيت أن الحقيقة لم تكن مرهونة إلى حرب خاضها فكان فيها علما كإخوته، أو دائرة مغلقة ألفى نفسه فيها فأقسم أن يعيد سيرة آبائه وأن لا يسخو بعنقه حتى تشرب السيوف من دمه، بل مرهونة الى الشوق غداة جدّ المسير الى أخيه الامام علي الرضا (ع)، فتقدم القافلة وأخويه، فاذا بالموت يقف سدا منيعا بينهم وبينه، عندها برزت الحقيقة كأنما أخليت المسافة لها فهي لا تلبث حتى تشمل الكون بأسره.

لم يعد الأمر مجردا بالنسبة لي، صار يقينا رأيته رأي العين! أترى يا ولدي أي حظ عظيم كان من نصيب أبيك؟! (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، إستشعرت ساعتها الفارق بين أن تقف على خط النار تنظر إلى قدميك تحترقان، وبين أن تصلك رائحة القدمين. بين سكين تغرس في لحمك فتصيب العظم، وبين دم تنظر إليه يخرج من جرح المصاب.

لقد أدركت أن الشوق الذي شدّ السيد الى رؤية أخيه الرضا (ع) كان سلمه الى عالم الملكوت. كان جانب واحد فقط من القمر بانتظار شروق الشمس عليه، حتى يبزغ هو الآخر، وقد رأيت السيد حين اكتمل وهو يخرّ صريعا. ابتسم وأغمض عينيه فسرى عبير منه لا يزال يكتنفني في كل مكان جمعني واياه!. رأيت العشق كيف يتحول إلى نافورة ألوان، والى سماوات من نغم ترجّ الفضاء، والى موطن رحمة يصل ما انقطع من أمل!.

تمت
Testing