غمضت بغتة جفون الفناء
ديوان السيد حيدر الحلي
غمضت بغتة ً جفونُ الفناءِ=فوق إنسانِ مقلة العلياءِ
وله نقبّت بغاشية الحزن=محيّا الدنيا يدُ النكباء
حمّلت وقر عبئها كاهلَ الدهر=فأمسى يرغو من الإعياء
نكبة ٌ لم تدعْ جليداً على=الوجد ولا صابراً على اللأواء
ليت أمّ الخطوب تعقمُ ماذا=أنتجت بغتة من الأرزاء؟
ولدت حين عنَّست هرماً ما=لم تلدْ مثله بوقت الصباء
فأصابت يداه في حرم المجدِ=فؤادَ العليا بسهم القضاء
فقضت نحبها، وغيرُ عجيبٍ=قد اُصيبت بأرأس الأعضاء
يا صريعَ الحمام صلى عليك=الله من نازلِ بربع الفناء
وسقى منه تربة ً ضمنت=جسمَك غيث الغفران والنعماء
فحقيرٌ نوءُ الجفون وما قد=رُجفون السحاب والأنواء
أين عيس المنون فيك استقلت=بالحصيف المضفّر الآراء
ذهبت في معرس السفرِ جوداً=وروى حوَّم الأماني الظماء
نعم ربُّ النديِّ حلماً إذا=النكباءُ طارت بحوبة الحلماء
نعم ربُّ الحجى إذا أكل الطيشُ=حجى الحازمين في اللأواء
نعم ربُّ الندى إذا كسع=الشولُ بأغبارِها عيالَ الشتاء
نعم ربُّ القِرى إذا هبَّت الريح=شمالاً في الشتوة الغبراء
نعم ربُّ الجفان ليلة َ يُمسى=بضياهنَّ مقمرُ الظلماء
يا عفاء الأنام شرقاً وغرباً=دونكم فاحتبوا بثوب العفاء
واقصروا أعينَ الرجاء قنوطاً=مَن إليه تمتدُّ في البأساء؟؟
وانحبوا عن حريق وجدٍ لمن=كان عليكم أحنى من الآباء
"يستقلُ الحبا لكم إن وفدتم=ولو المشرقان بعضُ الحباء»
لو بكته عيونكم وأفضن الأ=بحرُ السبع والحيا في البكاء
لم تفوّه معشارَ ما قد=أفاضت لكم راحُ كفه البيضاء
رحّلوا العيسَ قاصدين ضريحا=فيه ما فيه من على َ وسخاء
واعقروا عنده وجلَّ عن=العقر قلوباً مطلولة السوداء
جدثٌ ماء عيشكم غاض=فيه فانضحوا فوقه دمَ الأحشاء
حلَّ فيه من قد كفى آدماً في=غيث جدواه عيلة الأبناء
«ليت شعري أنّى دنا الموت=منه وهو في ربع عزّة ٍ قعساء»
«هل أتاه مسترفداً حين=أعطى ما حوته يداه للفقراء»
ودَّت المكرماتُ أن تفتديه=ببينها الماجد الكرماء
هم مكانُ الجفون منها ولكن=هو في عينها مكان الضياء
وهم في الحياة موتى ولكن=هو ميتٌ يعدّ في الأحياء
فحبا نفسَه الردى إذ أتاه=مستميحاً يمشي على استحياء
بعد ما عاشت العفاة زماناً=من نداه في أسبغ النعماء
علمت فقرَها إليه ولم=تعلم إليه الردى من الفقراء
ياعقيدي على الجوى كبر الخطبُ=فاهون بالدمعة البيضاء
أجرِ من ذوب قلبك الدمعة الحمراء=حزناً في الوجنة الصفراء
عودُ صبري من اللحا قد تعرّى=فانبذ الصبرَ لوعة ً في العراء
إن تلسني عن ظلمة الكون لمّا=حُلن أنوارَ أرضه والسماء
فهو أَثوابُ ليل حزن دجاه=طبّق الخافقين بالظلماء
قد خفقن النجوم منه بجنحٍ=سامَ أنوارَهن بالإطفاء
ولبدر الغبراء حال أخوه=بدرُ أهل الغباء والخضراء
وإلى الشمس قد نعوه فماتت=جزعاً من سماع صوت النعاء
وله غصَّ بالمصاب ولمّا=يتنفس حتى قضى ابن ذُكاء
وقف المجد ناشداً يومَ أودى=شاحبَ الوجه كاسف الأضواء
هل ترى صالحاً على الأرض=لما غاب فيها المهديُّ بدر العلاء
قلت خفّض عليك من عظم=الأمر ونهنه من لوعة البرحاء
ليس إلا محمدٌ صالحٌ يوجد=في الأرض من بني حواء
في التقى والصلاح والزهد و=الخشية والنسك بل وحسن الرجاء
هي في العالمين أجزاء=لكن هو كلٌّ لهذه الأجزاء
وبيوم المعاد لو لقَى=الخلقَ بأعماله إلهُ السماء
كان حقاً أن يعدم النار إذ=ليس نصيبٌ للنار في الأتقياء
ليس ينفكّ للجميل قريباً=وبعيداً عن خطة الفحشاء
ومهاباً له على أعين الدهر=قضى الكبرياءَ بالإغضاء
وبليغاً قد انتظمن معانيه=بسلك الإعجاز للبلغاء
وفصيحاً بنطقه يخرس=الدهرَ فما قدرُ سار الفصحاء
فارسُ المشكلات إن ندبوه=لبيان المقالة العوصاء
فهو من غرِّ لفظه يطعن=الثغرة َ منه بالحجة البيضاء
واحدُ الفضل ماله فيه ثانِ=غير عبد الكريم غيث العطاء
بعقود الثناء فخراً تحلّى=وتحلَّت به عقودُ الثناء
الذكيُّ الذي إذا قمتَ أهلَ ا=لفضل فيه كانوا من الأغبياء
والمصلّى للمجد خلف أخيه=في سباق الأشباه والنظراء
ضربا في العُلى بعرقٍ كريمٍ=واحدٍ دون سائر الأكفاء
ينتمي كلُّ واحدٍ منهما=عند انتساب الأبناء للآباء
للكرام الأكفِّ تحسب فيهنَّ=يذوب الغمامُ يوم السخاء
معشرُ المجد، شيعة الشرف=الباذخ، بيضُ الوجوه خضر الفِناء
قد حباهم محمدٌ بجميل الذكر=إذ كان صالح الأنباء
يقظُ القلب في حياطة دين اللّه=حتى في حالة الإغفاء
ذو يمين بيضاء لم تتغيَّرْ=بأثام البيضاء والصفراء
يا عليماً يصيب شاكلة=الغيب بتسديد أسهم الآراء
وكظيماً للحزن يطوى حشاه=جلداً فوق زفرة ٍ خرساء
لك ذلّت عرامة الدهر حتى=لك أمسى يُعدُّ في الوصفاء
ملكت رقّه يمينك فالعالم=من رقّه من العتقاء
ولئن قد أساء فالعبدُ للمولى=مسيءٌ جهلاً بغير اهتداء
أنتَ أطلقت أسر أعوامه الغبر=من الجدب بالندى والسخاء
فجنى ما جنى ، وغير عجيبٍ=إنما السوء عادة الطلقاءِ
ولئن كان مسخطاً لك بالأمسِ=بهذي المصيبة الصّماء
فلك اليوم في محمدٍ الندب=الرضا عنه فهو أعلى الرضاء
ذو محيّاً كالبدر يقطر منه=مثل طلّ الأنداء ماءُ الحياء
وعلاءٍ هي السماءُ، مساعيه=نجومٌ لألاؤها بالضياء
ومزاياً لم أرض نظميَ فيها=ولو أنَّي نظمتُ شهبَ السماء
أو فمُ الدهر كنتُ فيه لساناً=ناطقاً ما بلغتُ بعض الثناء
دون أحصائها الكلامُ تناهى=فغدت مستحيلة الأحصاء
تيَّمت قلبه حسانُ المعالي=بهواهنَّ، لا حسانُ الظباء
وعلى الخلقَ خلقُه فاض=بالبشر فأزرى بالروضة الغنّاء
خُلقٌ شفَّ، فالهواء كثيفٌ=عنده إن قرنته بالهواء
أرضعته العلاءُ ثدياً وثدياً=رضِع المصطفى ابنُ أمِّ العلاء
فهما في الزمان يقتسمان=الفخرَ دون الورى بحظٍ سواء
ألفت نفسُه السماحَ فتيّاً=بُوركا من فتوة ٍ وفتاء
وحوى الفضلَ يافعَ السنّ=لمّا فات شوطَ المشايخ العظماء
يا رحابَ الصدور في كل=خطبٍ وثقالَ الحلوم عند البلاء
لن تضلوا السبيلَ والبدرُ=هادٍ لكم في دجنَّة الغمّاء
وأخوه محمدٌ حلمكم فيه=حسينَ رأسٍ لدى النكباء
ولكم أوجهٌ بكل مهمٍّ ليس=منها يحول حسنُ الثناء
ونفوسٌ إذا التقت بالرزايا=غير مضعوفة القوى باللقاء
وكملس الصفا قلوبٌ لدى=الخطب بها رنَّ مقطعُ الأرزاء
إن أسمكم حسنَ الأسى و=لأضعاف أساكم تضمَّنت أحشائي
فلكم بعضكم ببعضٍ عزاءٌ=ولنا فيكم جميل العزاء